أخبار الأردن - آخر الأخبار المحلية والعالمية أخبار الأردن

أنس الشريف: صوت غزة الذي لم يصمت

2025-08-14 0 مشاهدة محليات

صنعَ مخيم جباليا، وحوارٌ بالصدفة، والحرب على غزة، شخصية الصحفي الشهيد أنس الشريف التي شاهدها العالم على شاشات التلفزة: الشجاعة في الإقدام على الخطر، والبساطة في نقل الأخبار، والفكاهة في مواجهة المصاعب: «تصوروا معي يا شباب لأني مش مطوِّل»، هكذا مازح زملاءه بجوار خيمة للصحفيين عند مستشفى الشفاء حيث عمل آخر أيامه، واستشهد هناك بعيدًا عن عائلته التي لم يرها غير مرّة واحدة آخر 40 يومًا.

ينحدر أنس من عائلة لاجئة من مدينة المجدل المحتلة عام 1948 إلى مخيم جباليا، وهو ابن تاجر ألبسة أعال أسرته المكونة من 11 فردًا أكبرهم شادي وأصغرهم أنس، وقد استشهد الإثنان في العقد الثالث من العمر خلال تأدية مهامهما؛ الأول متصديًا لوحشية الاحتلال في اجتياح شمالي غزة سنة 2006، والثاني بعد قرابة عقدين صحفيًا ينقل إلى العالم آثار الوحشية الإسرائيلية المستمرة.

درس أنس في مدارس الأونروا في مخيم جباليا الذي تنشط فيه الحياة السياسية والعامة، ويصقل وعي الشباب داخل المساجد والمنتديات الثقافية والنوادي الصيفية والمؤسسات المدنية، وقد شبّ  لعائلة قدّمت ابنها الأكبر شادي شهيدًا وقد كان قائدً ميدانيًا في كتائب القسام وناشطًا في العمل الجماهيري. 

بعد الثانوية العامة التي أنهاها عام 2014 تسجّل أنس بتخصص العلوم الشرعية في جامعة الأقصى، لكن حوارًا له مع ابن مخيم جباليا الصحفي عماد زقوت غيّر مسيرته، قال له زقوت إنه يرى فيه مشروع صحفي بسبب ما يتمتع به من نشاط وقدرة واسعة على نسج علاقات اجتماعية واسعة، متعهدًا له بتقديم المساعدة لو احتاج شيئًا في دراسته. وهكذا حوّل أنس تخصصه إلى الإذاعة والتلفزيون في الجامعة نفسها وتخرّج منها عام 2018.

كان هذا العام فاصلًا في حياة أنس، إذ بدأ العمل في تصوير المناسبات الاجتماعية، والأحداث السياسية ومنها مهرجانات فصائل المقاومة، والتصعيدات الإسرائيلية في قطاع غزة. لكن أهمها تصويره مسيرات العودة التي انطلقت في آذار من العام نفسه لفك الحصار عن القطاع، وقد أصيب فيها ثلاث مرات بقنابل ورصاص الجيش الإسرائيلي، لكنه كان يصر دومًا على دخول مكان الخطر وتأدية مهمته، وهذه صفة ظلت معه حتى آخر أيامه.

حين بدأت الحرب في السابع من أكتوبر، بدأ أنس التصوير والنشر على صفحاته الشخصية على منصات التواصل الاجتماعي ولوكالات وقنوات محلية ودولية منها فيديوهات لصالح قناة الجزيرة. في تلك الفترة كان الصحفيون شمالي القطاع حيث تركّز القصف يعدون على أصابع اليد الواحدة، ومنهم وديع أبو السعود ويوسف فارس وإسماعيل الغول.

في الأيام الأولى من الحرب تواصل الصحفي تامر المسحال من قناة الجزيرة مع أنس طالبًا منه تزويد القناة بمواد مصورة، وبعد أيام قليلة أخرى طلب منه الظهور بوجهه في ختام التقرير، فرد عليه أنس: «صعب، ما عمريش طلعت على شاشة أو على إذاعة محلية مشان أطلع على قناة عالمية». لكن المسحال شجعه فظهر أنس لأول مرة على الجزيرة في تقرير يوثق قصف واشتعال مستودع أخشاب ومواد تنظيف في جباليا البلد. ولم يكن معه حينها مصوّر، فطلب من صاحب المستودع المستهدف أن يصوّره واقفًا أمام الكاميرا.

في الأشهر الأولى من الحرب نقل أنس ومجموعة قليلة من الصحفيين والمصورين الأحداث الميدانية وأخبار المجازر الكبرى والأحزمة النارية من شمالي القطاع، خصوصًا مخيم جباليا. يرى الصحفي يوسف فارس أن أهمية تلك التغطية كانت في توثيق مخططات الاحتلال بإفراغ شمالي القطاع من أهله: «كان يستشهد 400 شخص بضربة واحدة، وقصف المنازل كان يستشهد 50 شخص، وكأنهم لم يقتلوا. ولا قيمة للتوثيق التاريخي في وقت لاحق للمجزرة طالما لم يُنقل الحدث الساخن، كل الأحداث وتغطية العالم والأصوات بدأت من التغطية هناك، لهيك أنس كان في ثغر ومكان حساس».

شكّلت مجموعة الصحفيين هذه مشكلة للاحتلال بنقلهم صورة المجازر والدمار إلى العالم، وكان جزء منهم شبابًا في العشرينات من أعمارهم، فاستهدف عائلاتهم أو هددهم عبر مكالمات هاتفية أو تسجيلات صوتية، أو حرّض عليهم. يقول الصحفي وديع أبو السعود: «الفترة هديك اللي يطلع راسه ويقول أنا صحفي يروح أهله وداره».

مع استهداف عائلاتهم غادر الصحفيون ومنهم أنس بيوتهم، وواصلوا التغطية خاصة في ساعات الليل المتأخرة من أمام مستشفيات كمال عدوان والإندونيسي. في إحدى المرات، اتصل ضابط من جيش الاحتلال بأنس وهدده، ثم أرسل له تهديدات صوتية على رقمه على واتس أب، طالبًا منه التوقف عن التغطية والمغادرة إلى جنوبي القطاع أو ستقصفه الطائرات. لكنه استمر في التغطية المباشرة من داخل المستشفى الإندونيسي، وبعد دقائق قصف الاحتلال الغرفة التي كان أنس يصور فيها. ثم صار يتنقل بعدها بين الأزقة والشوارع ومن مكان إلى آخر. ينام بين النازحين في السيارات ومركبات الإسعاف ومراكز الإيواء والمقرات العامة.

أمّا عائلته فظلت تتنقل من مكان إلى آخر في الشمال رافضة النزوح، يقول محمود شقيق أنس: «مش لوحده رفض ينزح، كل أخوتي وأبناء عمومتي. كان قرار مصيري، فش نزوح، كلنا ظلينا موجودين في الشمال»، لكن أنس قلل زياراته إلى بيت العائلة تخوفًا من استهدافه بينهم. وحين بدأت الآليات العسكرية بالتوغل داخل مخيم جباليا في كانون الأول 2023 بقي أنس في المكان لتوثيق الاجتياح والمجازر. وقد حاصر الاحتلال حينها الأهالي والنازحين في مراكز الإيواء، واعتقل بعضهم فيما أجبر آخرين على الخروج تحت وابل الرصاص. وثّق أنس ما حدث هناك، وبعد دقائق من بث أحد تقاريره عن الأحداث وصله خبر قصف منزله ومنزل عائلته واستشهاد والده. وبعد دقائق أخرى، ورغم تأثره الشديد وصعوبة وقع الخبر عليه كما يشهد زملاؤه، كان أنس على الشاشة يغطي خبر استشهاد والده.

توطدت علاقة أنس بالناس بسبب هذه التغطيات، وكان أهل الشمال يسمعون صوته عبر الإذاعات دون أن يعرفوا صورته لعدم توفر الكهرباء والإنترنت. يقول فارس إن أنس بلغته الفصحى القريبة من العامية أشعر المستمعين كأنه يتحدث إلى جيرانه وأبناء حارته في المخيم: «هو مدرسة، اسأل أي صحفي كم ألف مرة طفل صغير أو زلمة أو شيخ يسألك إنت أنس الشريف؟ أو بتشوف أنس الشريف؟ أنس حالة لن تتكرر في مهنة الصحافة».

قتل الاحتلال وأصاب واعتقل زملاء أنس في الشمال مثل فادي الوحيدي وإسماعيل الغول وغيرهم. وبعد قصف المستشفى المعمداني للمرة الثانية في نيسان الماضي انتقل أنس للعمل من بوابة مستشفى الشفاء من داخل خيمة للصحفيين مخصصة لقناة الجزيرة.

في الأشهر الأخيرة تعرّض أنس لضغط كبير من كثرة الداخلين إلى الخيمة ممن يطلبون منه التحدث عما يعانونه جراء الجوع ونقص الغذاء، كما يطلبون المساعدة أحيانًا، ولم يكن يرد أحدًا منهم كما يقول زملاؤه. وقد أثّرت فيه مشاهد التجويع كثيرًا فحاول التركيز في تغطياته على قصص الناس المجوّعين، خصوصًا بعدما بدأت تظهر آثار التجويع على أجسادهم. وصار هذا المشهد جزءًا يوميًا في عمله، ولهذا ربما بكى حين كان في تموز الماضي يغطي على الهواء مباشرة سقوط امرأة في الشارع من شدة الجوع. 

بعدها بأيام، وفي الخامس من آب الجاري، خاطرَ وذهب من أجل التوثيق إلى مركز توزيع المساعدات بالقرب من منطقة «زيكيم» شمالي القطاع حيث يقتل الناس بانتظار المساعدات، وحين عاد يقول شقيقه محمود: «ميّل، سلّم على إمه وعلى أغلب الناس، بعد هيك ما حدا شافه».

بسبب هذه التغطية، كثّف الاحتلال التحريض على أنس، سواء بما ينشره الناطق باسم جيش الاحتلال، أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وكان أنس يواجه هذه الحملات بالسخرية أحيانًا، وقد نصحه بعض الزملاء بالتوقف عن التغطية أو السفر إلى الخارج خصوصًا أن حياته صارت في خطر أكثر من أي لحظة سابقة، لكنه كان يرفض حتى مناقشة الفكرة، وبدلًا من ذلك كتب في نيسان الماضي وصيته الأخيرة.  

ووفقًا لعائلته وزملائه فقد عرضت عليه إحدى الدول العربية أكثر من مرة الخروج من قطاع غزة، وكان آخرها قبل استشهاده بخمسة أيام، لكنه كان يرفض، كما رفضت العائلة عرضًا بإخراج زوجته وأبنائه وأمه من القطاع. وقد قال أنس لأحد أفراد أسرته: «لو بدي أطلع بطلع، لكن يا بظل بغزة وأنقل رسالة أهلي وتوقف الحرب، يا زيي زي الناس، طول ما الحرب شغالة ما بترك غزة».

يرى فارس أن أنس مثل غيره من أبناء مخيم جباليا على استعداد للتضحية والمضي في أعمالهم حتى آخر نفس. حيث يشعر الواحد منهم أنه مستخلف أو منذور للمهمة التي يقوم بها: «هذا جزء مهم من شخصية أنس، والمحيطين بأنس، منهم المصوّر محمد نوفل لما قله أنا معك على الموت».

ربما يكون أنس قد شعر في الأيام الأخيرة بقرب اغتياله، إذ لم يحمل هاتفه حين كان يخرج من الخيمة، ولم يطل البقاء فيها. وفي الحادية عشر وثلث من ليل الأحد الماضي وقع انفجار في خيمة الصحفيين. يقول أبو السعود عن الانفجار: «طلّع شظايا كثير، أعتقد صاروخ مطور، كمية شظايا كبيرة، كنا كثير ننقصف بزنانة، بس مش هيك الشظايا».

استشهد مع أنس خمسة صحفيين آخرين هم: محمد قريقع، وإبراهيم ظاهر، ومحمد نوفل، ومحمد الخالدي، ومؤمن عليوة، بالإضافة إلى عدد من المارة والموجودين في جوار الخيمة.  وفي اليوم التالي وزّع قائمون على التكيات وجبات طعام عن روح أنس الشريف، ووزع بعض الناس المياه عن روحه أمام المستشفى. كان متوقعًا لديهم أنه سيرحل. لقد ودعهم في أيامه الأخيرة مدركًا أن هذا المصير قادم لا محالة، بل مصرًّا عليه: غزة أو الجنة.


ساهمت الزميلة سلمى القدومي من غزة في إجراء بعض المقابلات لهذا التقرير.

المصدر: موقع أخبار الأردن

© 2025 جميع الحقوق محفوظة - موقع أخبار الأردن

تقييم الخبر
يجب تسجيل الدخول للتقييم
متوسط التقييم: 0.0/5 (0 تقييم)