نضوب الرافدين: كيف تفاقمت أزمة المياه في العراق؟
صيف كلّ عام، يتجدد الحديث في العراق عن الأزمة المتفاقمة التي تعيشها البلاد، والعطش الذي لم يعد خطرًا محدقًا، وإنما بات واقعًا يتفاقم. وفي هذه السنة، ومع بدء فصل الصيف، أعلنت السلطات العراقية أن المخزون الاستراتيجي من المياه قد بلغ أدنى مستوىً له منذ ثمانين عامًا، إذ وصل أقلّ من 10 مليارات متر مكعب، فيما الحدّ الأدنى المطلوب هو 18 مليار متر مكعب.
يعتمد العراق في موارده المائية على مصادر سطحية وجوفية، تشكّل مياه دجلة والفرات، وروافدهما وفروعهما 100% من هذه المياه السطحية. يمتدّ الفرات لأكثر من 1100 كيلومتر داخل العراق، ودجلة لـ1400 كيلومتر، وينبع كلا النهرين من تركيا، ويشكّلان ما نسبته 70% من المياه العذبة في البلاد. ويعتمدان في تغذيتهما على روافد رئيسية أهمها نهر الزاب الكبير النابع من تركيا أيضًا، والزاب الصغير وديالي وينبعان من إيران.
وبحكم هذا التداخل المائي، واعتماد العراق الكبير على مياه «الرافدين» كان للماء حضوره الدائم في العلاقات العراقية مع هذين البلدين، بغض النظر عن التقلبات السياسية. واليوم مع الجفاف الذي يعانيه العراق، يصبح ملف هذه العلاقات أشدّ إلحاحًا من أي وقت.
العلاقات المائية العراقية التركية: تاريخ موجزقبل انهيار الدولة العثمانية، لم تكن الموارد المائية العراقية تتأثر بالعلاقات مع تركيا على اعتبار أنهما كانتا جزءًا من بلد واحد. لكن بعد انحسارها، واحتلال بريطانيا للعراق، وفرنسا لسوريا، صارت المياه في هذه البلدان الثلاثة تتأثر بالعوامل السياسية المختلفة، ومع هذه التطورات ظهرت الحاجة لاتفاقيات تنظم العلاقات المائية.
نصّت معاهدة لوزان بين تركيا ودول الحلفاء عام 1923 في أحد بنودها على تشكيل لجان تنظم الانتفاع من المياه والمشاريع المتعلقة بها والمشاريع المتعلقة بإدارتها، وأن أيّ مشاريع للمياه يجب أن تتمّ بالاتفاق مع الدول التي تتأثر بهذه المشاريع وبما يحفظ حقوقها. وظلّ هذا الاتفاق ساريًا حتى حصول العراق وسوريا على استقلالهما.
بعد استقلال العراق، أقرّ وتركيا معاهدة لوزان، وأقاما معاهدة الصداقة وحسن الجوار عام 1946، والتي يمكن اعتبارها أكثر المعاهدات الثنائية حفاظًا على حقوق العراق المائية. ونصّت في بنودها على تنظيم مياه دجلة والفرات، وعلى ضرورة تجنّب خطر فيضان النهرين. ولذا اتفق الطرفان على إيفاد موظفين عراقيين إلى تركيا ليقوموا بتحديد مواقع السدود اللازمة ومحطات المراقبة، مع التعهد التركي بإخطار العراق بأي مشاريع تقام على النهرين والاتفاق عليها بما لا يضر العراق.
لكن حالة الطمأنينة هذه لم تستمر طويلًا، إذ غيّرت تركيا من سياساتها المائية لاحقًا، وفي العام 1957 وضعت خطّة لبناء سدّ كبان. وقد أخطرت تركيا العراق بنيتها بناء هذا السد، قائلة إن سعته ستكون حوالي تسعة مليارات متر مكعّب، والغرض منه تنظيم مياه صرف نهر الفرات، لكن عند الانتهاء منه عام 1966 اكتشف العراق أن سعة السدّ تصل 30 مليار متر مكعّب. وفي الفترة ذاتها بدأت سوريا بناء سدّ الطبقة (سد الفرات) والذي سيكوّن بحيرة الأسد التي تتسع لحوالي 10 مليار متر مكعّب من المياه. ومع اكتمال المشروعين منتصف السبعينيات بدأ في العراق عهد مائي جديد.
لم يشعر المواطنون بتغيّر كبير خلال حقبة السبعينيات والثمانينيات إن لم يكونوا قد شعروا بتحسن، إذ تزامن بناء هذه السدود مع إتمام الكثير من المشاريع المائية العراقية المتعلقة بتوريد المياه للزراعة وتصريف المياه الناتجة عنها، وتوفير مضخات مياه تصل لأراضي بعيدة عن الضفاف. كما وضعت الدولة برامج لتوزيع المياه بشكل دوري وأشرفت على نمو القطاع الزراعي وتوزيع المحاصيل. وكذلك اكتملت الكثير من مشاريع البنى التحتية البلدية التي توفر المياه لمراكز المدن والمجمعات السكنية الجديدة مرافقة مع مشاريع الصرف الصحي. لكن حالة الاستقرار هذه لم تستمرّ طويلًا، إذ نشبت الحرب العراقية الإيرانية مطلع الثمانينيات، وكانت المياه أحد محاور الخلافات بين البلدين.
عام 1976 وقع العراق وتركيا اتفاقية للتعاون الاقتصادي والفني، تفرّعت منها لجنة لإجراء مباحثات حول المياه، وعلى مدى 12 عامًا اجتمعت اللجنة في 16 جلسة، ولكنها أخفقت في الوصول لاتفاق. وفي العام 1977 بدأت تركيا مشروع جنوب شرق الأناضول، وهو مشروع تنموي اقتصادي يهدف إلى توسيع المساحات الزراعية وتوليد الكهرباء عبر بناء 21 سدًا على مياه النهرين. وتبين لاحقاً أن سد كيبان ما هو إلا جزء منه.
خفّضت السدود المرتبطة بمشروع جنوب شرق الأناضول من مياه الفرات الداخلة للعراق من 29 مليار متر مكعب إلى 4.4 مليار متر مكعب، بينما خفضت الواردات المائية لدجلة من 20.93 مليار متر مكعب إلى 9.7 مليار متر مكعب. أي انخفاض ست مرات في الفرات، وانخفاض حوالي مرتين في دجلة.
عنت هذه المشاريع المختلفة انقلابًا تركيًا على الاتفاقيات السابقة، وبعد أن كان الغرض من التحكم بمياه النهرين السيطرة على فيضانهما، باتت تركيا تنظر لهذه السيطرة على أنها حقّ سيادي لها، مبررة ذلك بالقول إن النهرين ليسا نهرين دوليين ولا يخضعان لتعريف الدول المتشاطئة، بل هما موارد تركية صرف يحق لها السيطرة التامة عليهما. وعبّر بعض السياسيين الأتراك صراحة عن هذا الموقف، إذ قال الرئيس التركي الأسبق سليمان دميرل إن نهري دجلة والفرات تركيان إلى النقطة التي يخرج بها النهر من تركيا، كما قال بأن سوريا والعراق لا حق لهما بالمطالبة في حقوق مائية بالنهرين: «نحن لا نزعم أن لنا حصة في ثرواتهما النفطية، وهما لا تستطيعان المطالبة بحصة من الموارد المائية التركية». كما كرّر الأتراك القول إن النهرين يتبعان لحوض مائي واحد، بينما يصرّ العراق على أنهما حوضان منفصلان.
نتج عن هذا الموقف التركي تردٍ في نوعية مياه الرافدين في الأجزاء السفلية من مجراهما نتيجة مياه الصرف والأسمدة والأملاح الكيمائية الناتجة عن مشاريع الريّ المقامة في أعلى المجرى، حيث وصلت الملوحة في مياه الفرات عند الحدود العراقية السورية إلى 1000 ملغ/ لتر أي أنها وصلت ضعف الحد المناسب لمياه الشرب، وأكثر من الحد المناسب للزراعة، وهو أقل من 700 ملم/ لتر ما تسبب بجفاف مساحات واسعة من مناطق الأهوار، والإضرار الشديد بنوعية التربة الصالحة للزراعة بأغلب محافظات الجنوب العراقي.
وتشير التحليلات إلى أنه في حال لم تتمّ السيطرة على مياه الصرف هذه، فإن أراضي العراق ستصبح غير صالحة للزراعة في العقود القادمة. وبحسب بعض التوقعات فإن العراق سيخسر 40% من أراضيه الزراعية المتبقية مع استمرار تشغيل سد أليسو التركي، الأمر الذي بدأ يُنتِج هجرات سكانية داخلية للمزارعين وانتقالهم نحو العمل في مهنٍ أخرى كالبناء، بالإضافة إلى انتقالهم للسكن في عشوائيات في محيط المدن المستضيفة لهجرتهم. كما أدّى انخفاض منسوب مياه النهرين لتعطيل عدة منظومات للطاقة الكهرومائية، والإنذار بتعطيل ما تبقى منها، وبالتالي تعطل المشاريع التي تعتمد على هذه المنظومات بعملها في مجال الصناعة.
تتهم تركيا العراق بأنه دولة مستنزفة للمياه، وأنه لا جدوى من زيادة كمية المياه الواردة إليه لأن جزءًا كبيرًا منها سيذهب كفاقد مائي. وهي تقدّم نفسها بوصفها دولة ريادية في تقنيات الري وخاصة بالتنقيط. والادعاءات التركية هنا محقة، إذ تتعرض المياه في العراق لهدر شديد، وهو هدر تسببت به الحروب المتتالية في العراق من الغزو الأمريكي إلى الحرب الأهلية والحرب مع تنظيم الدولة. وهو ما عنى دمار الكثير من أساسيات البنية التحتية وعدم القدرة على صيانة أجزاء منها حتى اليوم.
في المقابل، يعتبر العراق هذا الموقف التركي غير منصف، فهو نتيجة هذه الظروف الصعبة يحتاج إلى مساعدة ودعم من جيرانه، لا إلى تقريع وحرمان من المياه يزيد من تفاقم مشاكله، ويخلق صراعات داخلية جديدة.
وفي مواجهة هذا الموقف التركي، يلجأ العراق للاتفاقيات الدولية ولمحاولة حشد دعم دولي لموقفه. لكن تركيا ترفض أصلًا التوقيع على الاتفاقيات المائية الدولية. وبعد تدويل العراق للقضية، أخذت تركيا النقاش نحو تعريف الدول المتشاطئة، ودافعت عن موقفها بالقول إنها تتصرّف انطلاقًا من أن النهرين تركيان وينتميان لنفس الحوض المائي ولا حق للعراق فيهما، مثلهما مثل النفط والغاز.
ورغم لجوء العراق إلى إيجاد حل دولي إلا أنه إلى الآن لم يفعّل مطالبات جدية أو يحشد مواقف دولية حقيقية، ويكتفي بالاتفاق سنويًا مع تركيا حول كمية الإطلاقات المائية الداخلة إليه. وهذا ما ينتقده الكثير من المواطنين الذين يخرجون كل فترة في مناطق الأهوار والبصرة والسماوة مطالبين الحكومة بالتحرك جديًا في هذه القضية، واستخدام أوراق ضغط مثل تقليل الاستيراد من تركيا، إذ يعتبر العراق واحدًا من أكبر المستوردين للمنتجات التركية، بالإضافة لمطالبتهم بالبدء بتنفيذ خطط شمولية جذرية لإدارة ما هو موجود بأفضل شكل ممكن؛ من إقامة مشاريع تحلية وصيانة البنى التحتية والمضي بمشاريع ضخمة للريّ بالتنقيط وغيرها.
ماذا عن روافد النهرين؟إن كان النهران قد فقدا معظم مياههما لصالح تركيا، فإنهما فقدا جزءًا من روافدهما الأساسية لصالح إيران. وإن كان الضرر الأكبر متحققًا بسبب تركيا، فإن ضررًا يتحقق بفعل إيران.
يحصل العراق على حوالي 35% من وارداته المائية من إيران عبر مجموعة من الأنهار الكبرى النابعة من المرتفعات الإيرانية مثل أنهار الزاب الصغير وديالى، وعبر الأنهار الموسمية مثل الطيب ودويريج، وعبر نهريْ الكرخة وكارون.
بدأت المشاكل المائية بين البلدين بالظهور في خمسينيات القرن الماضي، إذ حوّلت إيران مسار بعض روافد دجلة، وظلت الخلافات قائمة حتى توقيع اتفاقية الجزائر 1975، لكن تطبيق الاتفاقية لم يستمر طويلًا إذ اندلعت الحرب العراقية الإيرانية عام 1980.
وفي العام 2003 أنشأت إيران مشروع المياه الاستوائية الذي اكتمل عام 2011، وقد حوّل المشروع كميات كبيرة من مياه نهري ديالى وزنكان لخدمة مشاريع تنمية زراعية، وهذان النهران من أهم روافد دجلة، الذي قلّت الكمية الداخلة إليه بفعل هذا التحويل.
لكن هذا الوضع مع إيران مرشّح للتحسن مستقبلًا، إذ إن الأخيرة تعترف بقانونية اللجنة المشتركة مع العراق التي تأسست عقب اتفاقية الجزائر. ولا تتخذ موقفًا ينكر حقوق العراق المائية مثل تركيا، بل تصرّح بأنها تأثرت كثيرًا بالجفاف وحاجتها للمياه بسبب تضررها وهو ما يمنعها من الوفاء بالتزاماتها.
أيّ مستقبل مائي للعراق؟يستهلك العراق حوالي 63% من موارده المائية في الاستخدامات الزراعية. وبرغم هذه النسبة العالية إلا أن الإنتاج لا يغطي الحاجة الغذائية المحلية، وهو ما يعني وجود استهلاك مائيّ لا تقابله وفرة زراعية، أي وجود فاقد كبير داخل النظام الزراعي ذاته. وقد ظلت مساحة الأراضي الزراعية في العراق بنسبة 27% من مساحته الكلية إلى عام 2003، تزرع نسبة كبيرة منها بالحبوب، وقد بدأت هذه النسبة بالتقلص بعد الغزو، وبسبب تفاقم أزمة المياه، حتى إن بعض الأراضي خرجت من تصنيف أراض زراعية بسبب ازدياد ملوحتها.
ورغم أن الزراعة تعتبر قطاعًا هامًا في العراق تاريخيًا. إلا أنها الحلقة الأضعف في الأولويات. إذ تلجأ الحكومة سنويًا لتقليص المساحات المزروعة، وكذلك تفعل بالأنشطة المتعلقة بالزراعة مثل مزارع الأسماك وحقول الرعي لصالح توفير المياه البلدية ومياه الشرب. وفي ظل مرور سنوات لا يمتلك العراق فيها إلا الحد الأدنى أو أقل من احتياجاته المائية فإن الأراضي الزراعية المروية بمياه الأنهار فقدت حتى العام الفائت حوالي 60% من مساحتها. وللتعامل مع هذه المعضلة، ستلجأ الحكومة العراقية لاستغلال المياه الجوفية بشكل أكبر. وهي مشاريع تسيطر عليها الشركات الاستثمارية، إذ إنها الأكثر قدرة على إنشاء مشاريع ريّ بالمياه الجوفية عبر استخراجها ومعالجتها.
تشير الدراسات إلى أنه مع حلول عام 2050 وبسبب المشاريع في دولة المنبع، وتوسّع تصحّر الأراضي، فإن الرافدين سيجفان تمامًا، وهو ما يعني كارثة بيئية في بلد شكّل النهران طبيعته. وتدارك هذا الوضع يلزمه خطط تحوّل سياساته واقتصاده بشكل جذري. الأمر في العراق اليوم لا يتعلق فقط بترشيد استهلاك المياه ومحاولة إدارتها بشكل جيد بل بتغيير بنيته نفسها، فمثلًا جُلّ المشاريع الزراعية الممتدة لمئات السنين وما يتعلق بها من بنى تحتية ونوعية محاصيل أسٍّست بالأصل على ضفاف النهرين والمناطق الممتدة حولهما. بينما الآن ومستقبلًا يجد العراق نفسه مضطرًا لاستصلاح أراضٍ بعيدة سعيًا وراء المياه الجوفية أو مناطق الهطول المطري الأعلى. هذا التغيير سيصاحبه تغيير ديموغرافي خطير خاصة في مناطق الأهوار ومحافظات الجنوب. ورغم أن الكثير من الدراسات تقترح حلولًا تعتمد على إدارة المياه وإعادة توزيعها بأشكال مختلفة إلا أنها تغفل أن هذه الحلول تعني إعادة رسم الجغرافيا السكانية وتغيير طبيعة عيش الملايين. وأي حل لا يضع بعين الاعتبار الحفاظ على بنية البلد وتركيبته الديموغرافية ويغفل ضرورة وجود حل سياسي مع تركيا هو خطر جديد على أمن العراق ومساحة لخلق صراعات مستمرة.
المصدر: موقع أخبار الأردن
© 2025 جميع الحقوق محفوظة - موقع أخبار الأردن