كيف نفكر في الصحة في فلسطين من منظور تحرّري؟
منذ السابع من أكتوبر 2023، ولوصف ما يحصل في غزة، تُستخدم في وسائل الإعلام الغربية السائدة وفي المنظمات الدولية والمؤسسات الإنسانية لغة الطوارئ والحق في البقاء، مقدّمة ما يحصل على أنه كارثة إنسانية. ورغم أن هذا النهج قد يبدو مشروعًا بالنظر إلى حجم المأساة، إلا أنه ينطوي على خطر تطبيع العنف وتغييب أسبابه البنيوية والمسؤولين عنه. إن اختزال غزة إلى منطقة منكوبة غالبًا ما يحجب المنطق السياسي الذي يقف وراء هذه الأزمة، ألا وهو الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي.
ومن دون تحليل نقدي لهذه الحقيقة الاستعمارية، فإن أي استجابة طبية أو إنسانية أو أكاديمية تُخاطِر بإعادة إنتاج علاقات القوة التي جعلتها ممكنة منذ البداية. وبالتالي فإن ما نحتاجه اليوم هو إعادة تأطير «الصحة في فلسطين» ضمن تاريخ طويلٍ من الهيمنة الاستعمارية، من خلال تحليل آثارها على الممارسات الطبية والأجساد والبنية التحتية الصحية، سعيًا نحو تجاوز الإطار الإنسانوي وصولًا لتصوّر سياسة رعاية قائمة على العدالة والسيادة وحق تقرير المصير.
طريق مسدود للاستجابة الإنسانيةمع نكبة العام 1948، انهارت الهياكل الاجتماعية والمؤسسية القائمة في فلسطين. وتولّت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، مسؤولية جزء من الرعاية الصحية للاجئين الفلسطينيين، وهي مهمة تواصلها حتى يومنا هذا. وبعد العام 1967، أصبحت الصحة الفلسطينية تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي. وعلى مدى أكثر من عقدين، عانت النظم الصحية في الضفة الغربية وغزة من نقصٍ مزمنٍ في التمويل ونقص في الموظفين والمعدات. وحتى العام 1975، كانت ميزانية الصحة في كامل الضفة الغربية أقلّ من ميزانية مستشفى إسرائيلي واحد، وهو ما يعكس المنطق الاستعماري المُهمِّش للفلسطينيين والذي يجبرهم على الاعتماد على الآخرين.
ردًا على هذا الإهمال المنهجي، ظهرت منذ السبعينيات اللجان الصحية الشعبية، وهي لجان لعبت فيها النساء دورًا محوريًا، وتوسعت خلال الانتفاضة الأولى. اتسمت هذه الموجة من النشاط الصحي المجتمعي باللامركزية والتطوعية ورفض الخضوع للوائح الإسرائيلية. وكان المهنيون الشباب من سكان المدن، المنخرطون بعمق في اللجان الشعبية المحلية، في طليعة هذا الحراك الذي ركّز على توفير الرعاية الصحية للمناطق الريفية، عبر عيادات متنقلة وثابتة تهدف لتعزيز التوعية الصحية والرعاية الأولية. وتجاوزت هذه الجهود نطاق الطب العلاجي لتشمل الوقاية والإسعافات الأولية والتدريب الطبي.
وكانت هذه اللجان المحلية جزءًا من حركة أوسع للمقاومة الشعبية المناهضة للاستعمار، أساسها الاستقلال والصمود والسيادة والتنظيم الذاتي.
في الوقت نفسه، سعت الإدارة المدنية الإسرائيلية [المسؤولة عن الضفة الغربية وقطاع غزة] لدمج النخبة الفلسطينية في هياكلها، مع قمع أشكال التنظيم المستقلة للمجتمع المدني. في الثمانينيات، جُرّمت عدة مجالس بلدية مُعارِضة وحاولت «إسرائيل» استبدالها بشخصيات منصاعة مستعدة للتعاون مع المحتل مقابل الموارد والدعم المالي، في محاولة مبكرة لإقامة شكل من أشكال «الإدارة الذاتية» الفلسطينية المزعومة تحت السيطرة الإسرائيلية.
بعد اتفاقيات أوسلو، بدأت مرحلة جديدة هدفت رسميًا إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة، لكنها في الواقع عمّقت الاحتلال وأوكلت مسؤوليات النظام الإسرائيلي المحتل إلى السلطة الفلسطينية. وقد شكّل النقل الجزئي لمسؤوليات القطاع الصحي إلى السلطة بدايةً لعملية مؤسساتية، لكنها جاءت أيضًا على حساب نزع السياسة؛ إذ حلت لغة التنمية والحوكمة الرشيدة والمشاريع قصيرة الأجل محل خطاب المقاومة والتحرر.
ضمن هذا الإطار، ترافق إنشاء وزارة الصحة الفلسطينية مع تدفق كبير للمساعدات الدولية المشروطة بالتعاون الأمني مع «إسرائيل» وإصلاحات نيوليبرالية متزايدة. وتمّ استيعاب العديد من المبادرات النضالية ضمن الوزارة الجديدة أو في منظمات غير حكومية أو برامج إنسانية، ما أدى إلى تجريدها من بعدها السياسي. وهكذا، أصبح القطاع الصحي منظومة قائمة على أهداف تقنية وإدارية لا سياسية، غالبًا ما يفرضها المانحون الدوليون.
اعتمد هذا التوجه على رؤية أبوية للصحة، تُروّج لنماذج رعاية تُعزز التبعية والإحسان وتُفرّغ الصحة من بعدها الجماعي، عبر فردنة الاحتياجات والمسؤوليات الصحية. وقد جاء هذا النهج على النقيض من الطب المُسيّس الذي جسّدته اللجان الصحية الشعبية الفلسطينية، والذي سعى لبناء استقلالية مجتمعية، ونقل معرفة طبية نقدية، وتعزيز ممارسات الرعاية الجماعية المتجذرة في العدالة والكرامة والتضامن.
تفاقمت هذه الحالة بعد الانقسام السياسي عام 2007 بين غزة والضفة الغربية، عقب فوز حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006. إذ تطور نظامان صحيان متوازيان سيئا التنسيق. في الضفة الغربية، أعاقت نقاط التفتيش وعنف المستوطنين وتجزئة الأراضي الرعاية الصحية. في غزة، تسبب الحصار الإسرائيلي، الذي تفاقم بسبب العقوبات الدولية، في أزمة صحية حادة تمثّلت في نقص الأدوية وحظر المعدات وشلل التدريب الطبي. وغالبًا ما كان لا بد من تحويل المرضى إلى الضفة الغربية أو القدس أو الخارج إن تمكّنوا من الحصول على تصريح إسرائيلي. وأدت الحروب الإسرائيلية المتكررة على غزة (2008-2009، 2012، 2014، 2021، و2023، حتى الآن) إلى تدمير المستشفيات، وقتل العاملين في مجال الرعاية الصحية، وانهيار البنية التحتية الطبية.
الصحة والاستعمار الاستيطاني: إطار تحليلي لا غنى عنهعلى مدى عقود، تبنّى المجتمع الدولي مقاربات للصحة في فلسطين من منظور منزوع السياسة. فقد جرى التعامل مع الصحة من خلال مؤشرات تقنية، وبيانات كمية، أو خطابات إنسانية تركّز على الطوارئ و«الأزمات» وحقوق الإنسان. وقد أسهم هذا المنظور، السائد في مؤسسات الشمال العالمي، في التعتيم على الأسباب البنيوية لمعاناة الفلسطينيين. تنتج هذه «الصحة الإنسانية» عنفًا معرفيًا، يتمثل في إسكات الأصوات الفلسطينية المطالِبة بالعدالة والتحرر، وتعزيز نظام نيوليبرالي تُكرّسه «خبرات محايدة» ظاهرًا، لكنها في الحقيقة تُعيد إنتاج الوضع الاستعماري القائم.
في المقابل، ظهرت منذ الثمانينيات تقاليد نقدية فلسطينية في التفكير الصحي. وتعدّ ريتا جقمان رائدة هذا الفكر، إذ أظهرت كيف أن الاحتلال وتقييد حرية التنقل والفقر والعنف تشكل الأجساد والأمراض. محدّدة ثلاثة أطر خطابية سائدة؛ نموذج بيولوجي طبي تكنوقراطي؛ وإطار قومي يركز على خطاب الاحتلال والصمود؛ وثالث واعدٌ أكثر ومتجذّر في النضالات الشعبية والنسوية والمجتمعية. بالنسبة لجقمان، لا يمكن فصل الصحة عن البُنى السلطوية الداخلية والخارجية: إذ لا بدّ من مواجهة الاستعمار، والنظام الأبوي، والتفاوت الطبقي.
ومع اندلاع الحرب على غزة في أكتوبر 2023، طرأ تحوّل ملحوظ؛ إذ يتبنى الباحثون بشكل متزايد إطار الاستعمار الاستيطاني لتحليل محددات الصحة. ويفهم هذا الإطار الصحة لا باعتبارها نتيجة جانبية للحرب أو لغياب التنمية، بل كنتاج مباشر لمشروع استعماري يهدف إلى محو السكان الأصليين. والعنف في هذا السياق لا يقتصر على الجانب العسكري فقط، بل يشمل العنف الطبي، والمكاني، والبيئي، والنفسي. وهو عنف يؤثّر في الحق في الرعاية الصحية، وفي ظروف تقديمها، وفي شبكات التضامن، وأنظمة الغذاء، والعلاقات الجسدية.
من هذا المنظور، لا تنبع التفاوتات الصحية بين الإسرائيليين اليهود والفلسطينيين من «تأخر التنمية»، بل من منطق بنيوي قائم على التجريد من الحقوق والأراضي. وتُعد حالة البدو في النقب مثالًا صارخًا على ذلك: إذ أدّت سياسات التمدين القسري، وتدمير النظم البيئية، وفرض الأنماط الغذائية الصناعية، إلى انتشارٍ وبائي لمرض السكري، حيث تصل نسب الإصابة بين النساء البالغات في بعض القرى إلى 70%. هذه الأمراض ليست نتيجة الصدفة أو «العادات السيئة»، بل نتيجة سياسات استعمارية موجّهة.
تُذكّرنا هذه التحليلات أيضًا بأن الاستعمار لا يُعيد تشكيل الجسد السياسي فحسب، بل يُعيد تشكيل الأجساد البيولوجية أيضًا؛ فمن خلال تفتيت الأراضي، وإنكار حق العودة، وتدمير الروابط الاجتماعية، يجعل الصحة الجماعية مستحيلة. ومن هنا، فإن النضال من أجل الصحة الفلسطينية هو جزء لا يتجزأ من النضال الأشمل من أجل التحرّر، وهو ليس دعوة لإدارة الأزمة، بل لتفكيك النظام الاستعماري الذي أنتجها.
الصحة والقضاء على الاستعمار والسيطرة والاستغلالتجسد الصحة في فلسطين المنطق المتداخل للاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي: السيطرة والاستغلال وقبل كل شيء الإقصاء، وهذه الأخيرة هي السمة الأساسية لنظام قائم على إحلال مجتمع استيطاني محل السكان الأصليين، ما يستدعي محوهم جسديًا واجتماعيًا وسياسيًا. في هذا النموذج الهجين من الهيمنة الذي يجمع بين الاحتلال العسكري المباشر والهياكل الاستعمارية المتفشية، تصبح الصحة في الوقت عينه أداة رئيسية للسلطة وساحةً للنضال والمقاومة.
يتجلى منطق السيطرة بوضوح في نظام التصاريح الطبية. للحصول على العلاج المنقذ للحياة (مثل العلاج الإشعاعي والجراحات المتخصصة)، يجب على الفلسطيني في الضفة وغزة الحصول على تصريح إسرائيلي، وهي تصاريح غالبًا ما تُرفض أو تنتهي صلاحيتها قبل موعد العلاج. وبعض التصاريح مشروط باستجواب للمريض من قبل المخابرات الإسرائيلية. يوثق تقرير صدر عام 2008 حالات تعرّض فيها مرضى لضغوط للتعاون مع المخابرات الإسرائيلية مقابل الحصول على تصريح، كما تم استدعاء آخرين واعتقالهم [خلال عبورهم لتلقي العلاج في المستشفيات الإسرائيلية أو في الضفة المحتلة]. وبذلك يصبح نظام الرعاية الصحية أداة للابتزاز والمراقبة والإكراه السياسي.
أمّا منطق الاستغلال فيتجلى في كيفية تحويل إسرائيل لوصول الفلسطينيين إلى الرعاية الصحية إلى مصدر للدخل، حيث تفرض رسومًا على الخدمات الطبية وتعاملهم كـ«مرضى أجانب»، بدلًا من أن تتحمّل مسؤوليتها كقوة احتلال. في الوقت نفسه، يعمل العديد من العاملين الصحيين الفلسطينيين من الضفة الغربية في المستشفيات الإسرائيلية بموجب عقود مؤقتة غير مستقرة، مما يدعم النظام دون أن ينال أولئك العاملون الفائدة منه. هذا هو الاقتصاد الصحي الاستعماري الحقيقي، حيث يتم استغلال الأجساد الفلسطينية مرتين؛ كأيدٍ عاملة، وكوسيلة لتحقيق الربح.
أخيرًا، يُكمل منطق الإقصاء هذا الثالوث الاستعماري، حيث يُعد الوصول إلى الرعاية الصحية موقعًا استراتيجيًا لتنفيذه عبر رفض منح التصاريح الطبية، وحظر وصول المعدات الأساسية مثل أجهزة العلاج الإشعاعي، وتكتيكات التشويه الجسدي خلال العمليات العسكرية. كما أن التعرض المزمن للعنف العنصري والصدمات النفسية والإذلال المؤسسي يؤدي إلى أمراض مزمنة. يعمل منطق الإقصاء من خلال آليات خبيثة؛ هي الحصار، وتفتيت الجغرافيا، وتدمير الأراضي المشتركة، وحرمان السكان من الرعاية الصحية والتغذية. في غزة، كانت سياسة «تقييد السعرات الحرارية» التي تنتهجها «إسرائيل» تهدف صراحة إلى إبقاء السكان «على حافة الانهيار». ولا تقتصر هذه الآثار على الأراضي المحتلة عام 1967: فالأطفال الفلسطينيون في «إسرائيل» يعانون أيضًا من عدم المساواة المنهجية في الصحة، ومن بين أشكالها قلة العيادات الصحية، ونقص تمويل المستشفيات، وطول مسافات السفر، والحواجز اللغوية، وكلها عوامل تعيق الوصول إلى الرعاية الصحية، مما يؤدي إلى انخفاض متوسط العمر المتوقع.
واليوم في غزة، يكشف منطق الإقصاء عن طبيعته الإبادية بأبشع صورها؛ تدمير منهجي للبنية التحتية الصحية، واغتيال للأطباء واعتقالهم وتعذيبهم، وتدمير جميع مقوّمات الحياة.
إعادة التفكير في الرعاية والتضامن: المقاومة والعدالة وتفكيك الاستعمارعبر هذه المنظومات الثلاثة من السيطرة والاستغلال والإقصاء، تبرز الصحة لا كقطاع محايد، بل كمساحة استراتيجية تُفرَض فيها الهيمنة الاستعمارية. غير أن هذه السياسة الصحية (Medicalization) الاستعمارية لم تمرّ دون مقاومة، فرغم سياسات الإقصاء والسيطرة والاستغلال، طوّر الفلسطينيون منذ زمن طويل أشكالًا من المقاومة الطبية وممارسات بديلة للرعاية.
ففي غزة اليوم، لا يزال العاملون الصحيون يُجسّدون مفهوم الصمود في أبهى تجلياته: يعيدون بناء المستشفيات بعد كل تدمير، ويحوّلون الخيام ومراكز الإيواء إلى عيادات، ويواصلون تقديم الرعاية رغم انهيار النظام الصحي، ورغم الاعتداءات المستمرة التي يتعرضون لها.
وردًا على نزع التسييس الذي فرضته الأُطر الإنسانية والنيوليبرالية، تظهر من جديد ممارسة صحية مناهضة للاستعمار بقيادة مهنيين وباحثين يعيدون تأطير مفهوم الرعاية ضمن أفق سياسي يقوم على العدالة، والتضامن الدولي، والاستقلالية، والتحرر.
إن الاستماع إلى هذه الأصوات يعني رفض تبرير العنف باعتباره أمرًا طبيعيًا، ورفض الصدقة كرد فعل وحيد، ورفض تصوير الضحايا كمجرد موضوعات للشفقة. إنه اعتراف بأن الفلسطينيين ليسوا مجرد أجساد تعاني، بل هم فاعلون سياسيون حاملون للمعرفة والممارسات والرؤى. كما يعني فتح مسارات نحو تضامن لا يقوم على الشفقة، بل على المقاومة المشتركة، والدفاع الصحي الذاتي، والكرامة، وابتكار أشكال جماعية للحياة والرعاية.
تشكر الكاتبة كلًا من طاهر اللبدي، وأسامة طنوس، وليث حنبلي، والعربي بن يونس على قراءاتهم المتعمقة للنص وملاحظاتهم القيّمة.
المصدر: موقع أخبار الأردن
© 2025 جميع الحقوق محفوظة - موقع أخبار الأردن