رهنًا بالأمن والاقتصاد: لاجئون سوريون يعلّقون عودتهم

ثلاث عائلات من محافظات سورية مختلفة لجأت إلى الأردن بين صيف العام 2012 وشتاء 2013 هربًا من الحرب الدائرة في بلادهم آنذاك؛ خرجت عائلة أبو محمد الزعبي من درعا البلد إلى مخيم الزعتري وعاشت في الخيام، واتجهت عائلة قاطوع برًا من ريف دمشق إلى لبنان ثم بالطائرة إلى الأردن لتستقر في مدينة الزرقاء، فيما تنقّلت عائلة العامر* من مدينة داعل في محافظة درعا إلى تل شهاب الحدودي ثم مخيم الزعتري قبل أن تغادره لتعيش في أكثر من مدينة أردنية كان آخرها إربد. بعد أكثر من عقد على لجوئهم سقط نظام بشار الأسد يوم الثامن من كانون الأول الماضي، فبدأوا مثل معظم اللاجئين السوريين في الأردن التفكير بالعودة إلى سوريا.
طوال اليوم في الأحياء التي تتركز فيها عائلات اللاجئين السوريين ركن سائقو سيارات النقل شاحناتهم من أجل تحميل عفش بيوت اللاجئين العائدين، أُفرغت بالفعل عمارات كاملة في بعض مناطق إربد، وبسهولة كان يمكن ملاحظة حركة سيارات الشحن على الطرق الخارجية باتجاه معبر جابر-نصيب الحدودي بين الأردن وسوريا.
وكذا حصل في مخيمات اللاجئين السوريين الثلاثة، إذ بدا واضحًا ارتفاع أعداد العائدين بشكل يومي خاصة من المخيم الإماراتي الأردني الذي عاد أغلب سكّانه حتى أغلق نهاية حزيران الماضي. بالمحصلة، ومنذ أوائل كانون الثاني وحتى أواخر تموز الماضي عاد قرابة 123 ألف لاجئ مسجل لدى مفوضية اللاجئين، أكثر من نصف العائلات عاد كل أفرادها، وأقل من نصفها عاد جزء منها[1] إذ قسّمت بعض العائلات أفرادها إلى عائدين وباقين في الأردن، ومنهم عائلة أبو محمد الزعبي.
خرج الزعبي من درعا البلد أوائل العام 2013 برفقة زوجته وطفليه محمد وأحمد البالغين من العمر حينها 17 و15 عامًا، وثلاث بنات، ضمن قافلة تضم عائلات أخرى من الأقارب والجيران. بعد مسير أربع ساعات وصلوا إلى منطقة السرحان في الأردن، ثم نُقلوا في اليوم التالي إلى مخيم الزعتري ليعيشوا في الخيام معتمدين على مساعدات مفوضية اللاجئين مثل كوبونات المواد الغذائية، بالإضافة إلى مساعدات منظمات إغاثية أخرى. ثم عمل الأب داخل المخيم في تصليح البيوت وأعمال حرة أخرى، قبل أن يعمل في مزارع محافظة المفرق ويلتحق للعمل معه في الزراعة ابناه محمد وأحمد.
بين الأعوام 2019 و2020 تزوج الابنان وأنجب محمد طفلًا وأحمد طفلين، وهكذا بحلول العام 2021 صارت العائلة الواحدة ثلاث عائلات، وهذا أول عائق وقف أمام عودتهم بعد الثامن من كانون الأول الماضي، إذ كانوا يسكنون في بيت واحد في سوريا، وهم الآن بحاجة إلى ثلاثة بيوت.
بعد مناقشات، وقع الاختيار على الأب من أجل العودة والبدء بتأسيس حياة جديدة للعائلات الثلاثة بما في ذلك ترميم البيت وتوسيعه، وإجراء بعض الإصلاحات لخطوط الكهرباء والمياه، وتقديم أوراقه إلى الحكومة للعودة إلى وظيفته السابقة كعاملٍ في شركة الكهرباء ليكون لديه راتب ثابت، إذ أعلنت الحكومة الجديدة نيتها إعادة الموظفين المفصولين من وظائفهم خلال الحرب.
أرسل الأب لأولاده في المخيم أخبار سير العمل في البيت أولًا بأول، ورغم شح الخدمات حتى مقارنة بتلك التي تلقّوها في مخيم الزعتري، كان تجهيزات عودة الأولاد تسير على ما يرام حتى اتصل بهم الأب عقب الأحداث الأمنية الأخيرة في السويداء: «هون قالي لأ، عالم كثير خافت ترجع تعم الفوضى، الوالد قاللنا تأنوا شوية تا نشوف شو رح يصير. الوالد خايف علينا وإحنا خايفين على أولادنا»، يقول أحمد.
الآن، لا يستطيع الأب الرجوع إلى الأردن، ولا يقدر الأبناء على العودة إلى سوريا، إنما ينتظرون هدوء الأوضاع الأمنية، يقول أحمد: «بدنا نشوف شو راح يصير، بدنا نرجع، الواحد مرجوعه للبلد»، وكان أحمد تابع النقاشات التي تدور من حوله في المخيم بعيد إغلاق المخيم الإماراتي-الأردني إثر عودة اللاجئين منه، فقد راجت إشاعات كثيرة عن نية لدمج مخيمي الزعتري والأزرق قبل نهاية هذا العام، أو نقل ما تبقى من سكّان أحد المخيمين إلى الآخر إذا قلّت أعداد العائدين من أحد المخيمين.
يُذكر أنه عاد من مخيم الزعتري أكثر من 16 ألف لاجئ، ومن مخيم الأزرق أكثر من سبعة آلاف،[2] ومع نهاية شهر حزيران الماضي كان قد عاد معظم سكان المخيم الإماراتي-الأردني الذي أقام فيه قرابة خمسة آلاف لاجئ، بحسب مصادر مطلعة على الأرقام وتعمل في مجال الإغاثة.
لكن أعداد العائدين انخفضت بسبب أحداث السويداء بنسبة 28% في الأسبوعين الممتدين بين 13 و26 تموز كما قال لـ حبر الناطق الإعلامي باسم مفوضية شؤون اللاجئين في الأردن يوسف طه، فيما طلب حوالي 20% من اللاجئين الذين كانوا ينوون العودة تأجيل مغادرتهم بسبب الوضع الأمني في سوريا.[3]
يقول أبو ضياء عيّاش، أحد وجهاء اللاجئين السوريين في الشمال، إن الأحداث التي شهدتها سوريا مؤخرًا مثلما حدث في السويداء أثرت على اتخاذ قرار العودة عند اللاجئين المنحدرين من محافظات الجنوب -مثل درعا- أكثر مما أثرت على المنحدرين من مناطق أخرى مثل حمص وحماة ووسط سوريا،، مضيفًا أن «العامل السياسي مزعج بخصوص العودة، ونسبة كبيرة أوقفت العودة ومنهم خايف تدخل إسرائيل، الاستقرار السياسي مهم في اتخاذ قرار العودة».
خلال كانون الأول الماضي بلغ متوسط عدد العائدين يوميًا قرابة 177، ثم قفز الرقم في كانون الثاني وشباط إلى 719 و612 عائد يوميًا، ليشهد انخفاضًا في الأشهر الثلاثة التالية، ثم عاود الارتفاع في حزيران إلى حدود 900 عائد يوميًا،[4] وكان كثير من اللاجئين قد أفادوا في تقرير سابق للمفوضية باختيار حزيران موعدًا للعودة تزامنًا مع انتهاء دوام مدارس أطفالهم،[5] ما يفسر ارتفاع أعداد العائدين في هذا الشهر.
أقل من ربع العائدين بقليل كانوا يسكنون المخيمات،[6] والبقية عادوا من خارجها ومنهم عائلة الأرملة أم محمود قاطوع التي كانت تسكن الزرقاء. خرجت عائلتها مع أطفالها الخمسة من بلدة «عين منين» في ريف دمشق منتصف العام 2012 ضمن مجموعة يقودها الجدّ الستيني الذي يعمل تاجر ألبسة، توجهوا إلى لبنان للإقامة عند أقاربهم حتى تنتهي الاشتباكات في المنطقة، وحين توسعت الأحداث انتقلوا إلى الأردن بعد توصية من تجار أردنيين أصدقاء له في مدينة الزرقاء، ووصلوا عمّان أواسط آب 2012.
في العام التالي عاد الجد إلى سوريا لأنه لم يحتمل حياة اللجوء، فيما ظلت أم محمود في الزرقاء رافضةً العودة خوفًا على طلب ابنيها الكبيرين للخدمة العسكرية الإلزامية. درس الأولاد في مدارس الزرقاء، وشكّلوا صداقات مع أردنيين في المدرسة وفي محيط الحي، فيما وسّع أكبرهم محمود دائرة أصدقائه لتشمل محيط الجامعة حيث درس الحقوق، ومن ثم محيط عمله في مكتب محاماة في عمّان ومع العاملين في منظمات إغاثة اللاجئين في الأردن، يقول محمود: «عدد السنوات التي عشتها بسوريا نفس سنوات الأردن، بالأردن أكثر ارتباط لإنه فترة النضج والمراهقة، هون بالأردن تكويني».
مباشرةً بعد الثامن من كانون الأول فكرت العائلة بالعودة، لكن مشاعر محمود تضاربت حيال محيطه ومعارفه، فيما كان يشغل المستقبل المهني باله كذلك: «وصلت لمرحلة هون حياتي، ممكن أؤمّن رأسمال أفتح مشروع خاص». أما عن رغبته في زيارة سوريا فيقول: «حابب أنزل، لكن برضه عندي تخوف ما أشوف سوريا اللي بدي إياها». بعض إخوة محمود يشاركونه الرغبة ببقاء العائلة في الأردن، لكن رغم ذلك عادت الأم إلى سوريا ومعها بنت وولدان صغيران، فيما ظل محمود وأحد أشقائه في الأردن وهما الوحيدان القادران على إعالة نفسيهما.
خلاله عمله على برامج تهيئة الشباب السوريين للعودة لاحظ سلامة* وهو موظف في منظمة تعمل في أوساط اللاجئين السوريين، وجود ما يصفه بمشاكل اجتماعية لدى الشباب في عمر المراهقة والصغار الذين لا يرغبون بالعودة مع ذويهم، وبحسب نقاشات معهم فإنهم يضعون اعتبارًا لما يتاح لهم من خدمات في أماكن إقامتهم بالأردن مثل توفر الإنترنت والكهرباء فضلًا عن الصداقات والعلاقات، يقول سلامة: «هناك نسق عام، معظم الشباب ما بدهم يرجعوا، كان عنا تدريب 150 شب، نسبة مش أكثر من 15% بده يرجع والباقي بده يظل».
وقد توصل تقرير لمفوضية الأمم المتحدة إلى أن بعض اللاجئين الأكبر سنًا أكثر انفتاحًا على العودة، على عكس أطفالهم -خصوصًا من ولدوا أو نشأوا في الأردن- الذين يفضلون البقاء نظرًا لمحدودية ارتباطهم بسوريا وروابطهم القوية في الأردن.[7]
حتى أواخر حزيران الماضي كان يقيم في الأردن قرابة 560 ألف لاجئ سوري مسجل لدى مفوضية اللاجئين. وإلى جانب الأسباب الأمنية يتخوف كثيرون من العودة بسبب محدودية فرص كسب الرزق في سوريا.[8] خلال الأيام التالية على سقوط الأسد لم يكن هذا التخوف موجودًا لدى عائلة العامر التي تنحدر من مدينة داعل شمالي محافظة درعا واللاجئة في مدينة إربد، لكن نظرةً أوسع استعرضت فيها العائلة الحالة الاقتصادية في سوريا وفرص العمل والسكن طرحت السؤال التالي: نعود إلى أين؟
كانت العائلة المكونة من الأم ومحمد وشقيقه وشقيقته قد لجأت إلى الأردن في نيسان العام 2013 ضمن مجموعة من الأقارب بعد اشتداد الاشتباكات في المدينة. سارت المجموعة باتجاه قرية تل شهاب السورية ثم تجاوزوا الشيك باتجاه الأراضي الأردنية وناموا ليلتهم في خيمة كبيرة، ثم نقلتهم الأجهزة الأمنية إلى مخيم الزعتري، قبل أن يغادروه في اليوم التالي إلى منزل قريبٍ لهم في مدينة المفرق: «كان الوضع مأساوي كثير [في المخيم]، كان شتا، منطقة صحراوية بالليل برد والنهار حم وغبار»، يقول محمد.
انفصلت عائلة محمد عن المجموعة وسكنوا في إحدى قرى محافظة عجلون ثم انتقلوا إلى إربد، وقد ساعدهم الأب المقيم في الكويت أول سنتين على تدبر إيجار السكن ومصاريف دراسة الابن الأكبر لتخصص الصيدلة. لكن عمل الأب تدهور، فاضطر محمد وأخوه إلى العمل في التحميل والتنزيل بسوق الخضار ثم في قطاع المطاعم من أجل توفير مصاريف البيت وتأمين تكاليف دراسة الابن الأكبر.
وبعد سنوات من العمل استقرّ محمد في العمل في مطعم في إربد وعمل شقيقه داخل صيدلية، علمًا بأن الأنظمة والقوانين الأردنية لا تسمح بعمل السوري في قطاع الصيدلة، فيما تسمح بالعمل داخل المطاعم شرط الحصول على تصريح عمل، ومع ذلك تدبر شقيق محمد العمل في صيدلية كمتدرب واستفاد محمد من دعم المفوضية في تغطية تكلفة تصريح العمل البالغة 550 دينار سنويًا.
بعد أيام على سقوط الأسد بدأت العائلة تتصل بالأقارب في داعل وتحسب تكاليف المعيشة في سوريا بما في ذلك صيانة البيت المتضرر من العمليات العسكرية في بلدتهم بتكلفة قد تتراوح بين خمسة وسبعة آلاف دولار، وتوفر فرص العمل وأجرة العاملين في المطاعم، وأسعار السلع الغذائية الأساسية، وسعر صرف العملة، بالإضافة إلى تكلفة رحلة العودة التي تقترب من 500 دينار بدل أجرة الطريق ونقل الأثاث. وأخيرًا توصلت العائلة إلى أنها غير قادرة على تأمين نفقات الانتقال إلى داعل والعيش فيها، ولو تدبّروا المبلغ فإن أفراد العائلة لن يجدوا عملًا يكفيهم، فقرروا البقاء في الأردن: «مطاعم الشاورما يعطوا 100 دولار، والمعلم 120 دولار، ما رح يكفي. وأخوي ما رح يلاقي شغل دغري، والحكومة ما فيها وظائف»، يقول محمد.
رغم رفع العقوبات الأمريكية والأوروبية عن سوريا إلا أن المعيشة فيها مكلفة والأسعار لا تزال مرتفعة. يقول أبو ضياء إن فرص العمل المتاحة الآن في سوريا هي لعمال الترميم والبناء، وإن أعلى يومية عامل تبلغ 100 ألف ليرة سورية (5.4 دولار) ما يصعّب تأمين تكاليف المعيشة. يختتم محمد بالقول إن بقاء الوضع الاقتصادي في سوريا على حاله اليوم يعني «أكيد ما رح نرجع. إذا ما استقر الوضع وصار فيه فرص عمل وراتب مناسب ما رح نرجع».
-
الهوامش
* أسماء مستعارة حفاظًا على الخصوصية، وبناء على طلب أصحابها.
[1] تشكل عودة العائلات بأكملها 56%، وعودة جزئية لأحد أو جزء من العائلة 44%.
[2] هذه الأرقام حتى يوم 19 من تموز 2025.
[3] UNHCR/Regional Flash Update 37 Syria situation crisis 25 July 2025 page 4
[4] الأرقام كما في 3 تموز 2025.
[5] UNHCR/MID-YEAR ANALYSIS ON RETURNS TO SYRIA FROM JORDAN JANUARY-JUNE 2025 page 1
[6] بحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، والأرقام تغطي الفترة من 8 كانون الأول 2024 إلى 12 تموز 2025.
[7] UNHCR/MID-YEAR ANALYSIS ON RETURNS TO SYRIA FROM JORDAN JANUARY-JUNE 2025 page 2
[8] UNHCR/MID-YEAR ANALYSIS ON RETURNS TO SYRIA FROM JORDAN JANUARY-JUNE 2025 page 1
المصدر: موقع أخبار الأردن
© 2025 جميع الحقوق محفوظة - موقع أخبار الأردن