أخبار الأردن - آخر الأخبار المحلية والعالمية أخبار الأردن

«المباراة الذرية»: كيف لعب الجنود الأمريكيون الكرة على «جثة ناغازاكي»

2025-08-06 0 مشاهدة محليات

في أول يومٍ من عام 1946 وسط أنقاض ناغازاكي المشعة، وبعد شهورٍ من سقوط القنبلة النووية على المدينة اليابانية، نبت مشهدٌ مفاجئ لا يُصدّق وسط الرُكام: ملعبٌ نُحت من الدمار، وفريقان من مشاة البحرية الأمريكية، بقيادة نجوم سابقين في كرة القدم الأمريكية، يتنافسان فيما سيُعرف لاحقًا باسم «المباراة الذرية». ظلّت هذه القصة مغمورةً بالتجاهل، أو لا يراد لها الظهور، وهو ما يسعى غريغ ميتشل، المؤلف والصحافي والمخرج الأمريكي، لكسره في فيلم الوثائقي الجديد «الكرة الذرية: كرة القدم في منطقة الصفر – والخطر النووي اليوم». فعلى مدى 53 دقيقة يعيد ميتشل بناء القصة من جذورها، بدايةً من صباح التاسع من آب 1945، عندما ألقت الطائرة الأمريكية بقنبلة نووية ثانية استهدفت مدينة ناغازاكي اليابانية، وصولًا إلى التداعيات الكارثية لذلك الحدث الفارق، والذي امتد لعقودٍ، ولم يطل أهل المدينة فحسب، بل حتى أولئك الذين جاءوا لاحتلالها ولعب كرة القدم الأمريكية على جثث أطفالها.

في مطلع الفيلم، وقبل أن يدخل في السرد المصوّر لما حدث قبل ثمانية عقودٍ، لا ينسى ميتشل أن يضع بين كومة الصور بالأبيض والأسود، صورة بالألوان، يكسر بها رمادية الفيلم. كانت لرجل من غزة يحمل طفله على عربة معدنية صغيرة، يعبران الركام الهائل لبيوت ذويهم في قطاع غزة، وكأنه يريد أن يذكّر المشاهد بأن التاريخ الإبادي، الذي هو بصدد مشاهدته، ليس ماضيًا اندرس، بل واقع مستمرٌ في أشكال جديدةٍ وفي بقاعٍ أخرى غير جزيرة اليابان. فهذا الفيلم، غير المتكلف فنيًا، يسدد في المقام الأول ضربةً للتناقض الأخلاقي، الذي شُيد عليه التفوق الغربي المعنوي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية بوصفه نقيضًا للفاشية، مع أنه تجلٍ للفاشية على نحوٍ آخر. فعبثية لعب كرة القدم على أنقاض مدينة قد ضُربت للتو بالأسلحة النووية، تسلط الضوء على أن بشاعة الإثخان – وإهانة العدو لا مجرّد هزيمته- مكون جوهري في عقيدة القوة الأمريكية الفائقة. ومن خلال هذه المباراة -الأكثر سُريالية في تاريخ كرة القدم – يلقي المخرج أضواء على النسيان المتعمد لقصف ناغازاكي، قياسًا لشقيقتها هيروشيما، والدور الذي لعبته الأجهزة الأيديولوجية الأمريكية في ذلك المحو.

اللعب بين القبور 

كان الملعب ساحةً قرب مدرسة إعدادية، سقط فيها 152 طالبًا و13 معلمًا يابانيًا قبل أشهرٍ قليلة، وتبخرت جثثهم في لمح البصر بسبب التسمم الإشعاعي. أمّا المدرجات، فقد بنيت على عجلٍ من خشبٍ مُتشقق لا يزال يحمل آثار القنبلة، التي سماه الأمريكيون «الرجل البدين». فيما كان العشب ما يزال يختزن شظايا زجاجية تلمع كنجومٍ في ثلوج مطلع العام الجديد. وكما يتذكر أحد الشهود، كان الملعب «على بُعد مائة ياردة فقط من بقايا مدرسة إعدادية متفحمة. ومن الطرف المفتوح، يُمكن للمرء أن يرى، ليس تلال باسادينا، بل ساحة الخردة العملاقة التي خلّفتها القنبلة، والآثار الحمراء للكاتدرائية الكاثوليكية الرومانية التي كانت تُشرف على السهل في يومٍ من الأيام». كان الدافع وراء إقامة المباراة هو الاحتفال برأس السنة، جريًا على العادة الأمريكية في إقامة مباريات كرة القدم الجامعية الكبرى في ذلك التوقيت، و«بناء علاقات ودية مع اليابانيين، ومشاركة الثقافة الأمريكية في أعقاب حربٍ دامية»، والأهم من ذلك الترويح على الجنود العاملين في اليابان. فمند أيلول 1945، خضعت اليابان للاحتلال الأمريكي، في اليوم التالي لإعلان الإمبراطور هيروهيتو استسلام بلاده في الحرب العالمية الثانية.

أما الفريقان فقد تشكّلا من عددٍ من مشاة البحرية كانوا لاعبين سابقين في دوري الجامعات. من جهة فريق الدببة، بقيادة أنجيلو بيرتيلي، أحد نجوم كرة القدم الأمريكية، الذي لعب لمدة أربع سنوات كلاعب وسط فريق نوتردام فايتنغ آيريش، وفاز في عام 1943 بجائزة «هايزمان»، لأفضل لاعب كرة قدم في الجامعات. في مواجهة فريق النمور، بقيادة ويليام أوسمانسكي الملقب بـ«بيل الرصاصة»، والذي لعب لسنواتٍ ظهيرًا لفريق شيكاغو بيرز في الدوري الوطني لكرة القدم الأمريكية. وخدم منذ 1943 في البحرية الأمريكية كطبيب أسنان ومدرب كرة قدم رئيسي في قاعدة مشاة البحرية في كامب لوغون منذ عام 1944. 

وعلى نشيد أهزوجة «إلى الأمام، ويسكونسن»، انطلقت المباراة، وسط حضور جمهور ناهز الألفي شخص. وقد تم تغيير قواعد اللعبة من الالتصاق إلى اللمس باليدين بسبب شظايا الزجاج التي تغلغلت وسط العشب، بسبب الانفجار النووي. لعب الفريقان بحماسٍ في طقسٍ شديدة البرودة، فيما كانت خوذاتهم تلمعُ على الأنقاض المتفحمة. بدا النزال استعراضًا بشعًا فوق براءة متبخرةٍ، مذكرًا بملوك العصور الوسطى الذين لعبوا بجماجم أعدائهم أو صنعوا منها كؤوس للشراب. 

ورغم أن نجميْ المباراة، بيرتيلي وأوسمانسكي، قد اتفقا على إنهائها بالتعادل نظرًا لطبيعتها الرمزية، إلا أن أوسمانسكي، لم يقاوم شهوته للفوز، مسددًا نقطةً إضافية في اللحظة الأخيرة منحت فريقه الفوز، وعاد الجنود إلى ثكناتهم فرحين مسرورين. أمّا ما تبقى من سكان المدينة على قيدٍ حياةٍ مغمورةٍ بالإشعاعات، فقد شاهدوا المباراة من فوّهات المباني المدمرة القريبة، بحسب زعم التقارير الصحفية القليلة التي غطّت الحدث السُريالي. ولم ينسَ منظمو المباراة أن يحفروا على صدر كتيّب تذكاري أُعد خصيصًا لهذا الحدث سطرًا يقول: «من بين أنقاض القنبلة الذرية، صنعنا ملعبًا لكرة القدم».

اعتمد المخرج بشكل كلّي على الأرشيف لبناء القصة. فلا شهادات مصوّرة ولا مشاهد ملوّنة من حاضر المدينة، وإنما أرشيفات ومقاطع كثير منها لم يسبق نشره. وحتى الشهادات المضمّنة ترد على أصوات مختلفةٍ عن صوت الراوي الرئيسي. مع الكثير من الوثائق التي تظهر على الشاشة، والصور الفوتوغرافية. أمّا الموسيقى التي تُسمَع خفيضة في الخلفية فتبدو ملائمة للسرد، فليست حزينةً تمامًا ولا مثيرة، بل حيادية إلى أبعد حدٍ. ربما يكون ميتشل قد اختار عدم التكلّف الفني والتقني قصدًا، كونه معنيًا بهمّ القصة أكثر من شكلها. فالرجل مشغول منذ زمنٍ بمخاطر السلاح النووي، ومحقق بارع في الكوارث التي خلّفتها الخطوة الأمريكية النووية غير المسبوقة في صيف عام 1945. فالوثائقي يسلّط الضوء أيضًا على الأضرار التي لحقت بالجميع نتيجة الإشعاع. وإن كانت الأضرار التي لحقت بأهالي المدينة واضحةً وبشعةً وممتدةً إلى سنواتٍ خلت، إلا أن الأضرار التي لحقت بمن مرّوا بها، ظلت دائمًا غير مرئيةٍ. فقد نُقل الألاف من أسرى الحرب عبر ناغازاكي، كما خدم في المدينة أو مرّ بها ألاف الجنود الأمريكيين، وكثير من هؤلاء ظهرت عليهم بعد فترة أعراض أمراضٍ خطيرة مثل السرطان بسبب الإشعاعات. ورغم أنه يُمكن إرجاع بعض ذلك إلى الجهل الذي كان سائدًا حينذاك بالآثار طويلة المدى للإشعاع، إلا أن الفيلم يُبيّن بوضوحٍ أن جزءًا كبيرًا من الكارثة الصحية المعممة، كان نتيجةً لإخفاء الحكومة الأمريكية لهذه الآثار قصدًا. وقد أفاض المخرج في الحديث عن هذه المسألة في كتابه الذي نشر عام 2011 : «التستّر الذري: جنديان أمريكيان، هيروشيما وناغازاكي».

اقرأ/ي أيضا:

  • شمس صغيرة: الرعب النووي في الخطط الأمريكية

تُجسّد هذه المباراة الغريبة، مفارقة أخلاقية عميقة للتعقيدات المرتبطة بالنصر في الحروب. فالولايات المتحدة التي دخلت الحرب بوصفها قائد العالم الحُرّ والمدافع عنه، لم يكفها الغزو الحربي بالقنابل النووية، بل تضيف إليه غزوًا ناعمًا بكرة قدمها الخاصة، على أرض لا تزال تحمل رائحة الكبريت والدم. وتتعمق المفارقة عندما نتأمل القرارات الواعية التي جعلت هذا المشهد ممكنًا. فقد عُدِّلت القواعد لتتلاءم مع التضاريس المُشعَّة، كما أن وجود جمهور الضحايا، يُحوِّل الحدث إلى مسرحية مُشوَّهة، كأنها تحدث في الجحيم. ولعلّ أكثر ما يُثير القرف هو الآلية النفسية المُستخدمة، من خلال ترسيخ الطقوس الأمريكية كشكل من أشكال التعافي النفسي من صدمة استخدام القوة التدميرية المطلقة. بلعبهم كرة القدم في موقع محرقة نووية، انخرط مشاة البحرية فيما يُمكن أن نُسميه «استعادة الطقوس»، وهي محاولة لا واعية لطمس المعاناة اليابانية بالرمزية الأمريكية. فضلًا عن أن الأمراض والسرطانات اللاحقة التي أصابت العديد من المشاركين تُضيف طبقة أخرى من المفارقة المأساوية. فقد أصبح الجلاد مشاركًا في تجربة الضحية التي ستنجلي نتائجها بعد سنواتٍ. إن هذه الكارما تجبرنا على مواجهة حقيقةٍ مُزعجة، وهي أن أكثر تصرفاتنا عاديةً تحمل أحيانًا وطأة فشلٍ أخلاقيٍّ عميق.

ناغازاكي المنسية 

الجانب الثاني، الذي يعالجه غريغ ميتشل في فيلمه، هو كيف عملت الدعاية الأمريكية على طمس مأساة ناغازاكي، والتركيز على هيروشيما، ليس حبًا في الأخيرةٍ، ولكن هربًا من تكاليف الأولى. في الساعة 11:02 من صباح يوم 9 آب 1945، ضربت قنبلة البلوتونيوم المدينة، بقوة 22 كيلوطنًا، أي حوالي ضعف قوة انفجار قنبلة اليورانيوم في هيروشيما. سقطت على بُعد أكثر من ميل من هدفها، فوق كاتدرائية أوراكامي التي سوَّيت بالأرض، مما أسفر عن مقتل العشرات من المصلين الذين كانوا ينتظرون الاعتراف. ذابت الطرق الخرسانية في الوادي. ولقي نحو 35 ألف شخص حتفهم على الفور، بينما لقي 50 ألفًا أو أكثر حتفهم لاحقًا. ورغم ذلك فقد طغت مأساة هيروشيما على ناغازاكي، التي يصفها الفيلم بـ«القنبلة المنسية»، بسبب سياسة أمريكية مخططٍ لها بعناية، استخدمت فيها أجهزة دعائية هائلة. 

من الناحية المنطقية، كان الأمريكيون يستطيعون تبرير هيروشيما، بزعم أنهم لا يعرفون عواقب القنبلة التي تستعمل للمرة الأولى، لكن في حالة ناغازاكي، التي قصفت تاليًا، لم يكن يوجد أي مبررٍ معقولٍ، لذلك جندوا كل أدوات السرد والتأريخ لطمس معالم الجريمة، وأصبحت ناغازاكي تُذكر فقط كلاحقةٍ اسمية لهيروشيما. يرى المخرج أن «الأدلة التي تدعم النظرية الشائعة القائلة بأن فرصة تجربة قنبلة البلوتونيوم كانت السبب الرئيسي لقصف ناغازاكي تبقى وجيهةً ولكن دون تأكيدٍ، خاصة وأن المرء يتساءل عند زيارة المدينة عن الدافع الجارف، والذي يبدو طائشًا، لاستخدام قنبلة ذرية ثانية، أقوى من الأولى ضد منطقة لا تشكل هدفًا استراتيجيًا».

في كتابه الذي نشر عام 2020: «البداية أو النهاية: كيف تعلمت هوليوود التوقف عن القلق وحب القنبلة»، يكشف ميتشل جزءًا من الآليات الرقابية، التي مكّنت السلطات الأمريكية من السيطرة على السرد المتعلق بالقصف النووي ضد اليابان، ويستفيد من هذا البحث في الوثائقي. فالكتاب تحقيق تاريخي معمّق عن الإنتاج المتعثر لفيلم «البداية أو النهاية»، الذي حاولت شركة «إم جي إم» إنتاجه عام 1947 لتسليط الضوء على مشروع مانهاتن والقنبلة الذرية. يكشف ميتشل كيف استغلت هوليوود والحكومة الأمريكية ذلك بشكل منهجي لإنتاج رواية تبرر الحرب النووية وتعيد صياغة الذاكرة العامة.  فقد عُرض المشروع بعد شهرٍ واحدٍ من القصف، وكان هدفه في البداية إضفاء طابع درامي على القنبلة المدمرة كتحذير من عواقبها، وكان بعض العلماء مثل أوبنهايمر، يأملون أن يُشجع الفيلم على التحكم المدنيّ في الأسلحة النووية والرقابة الدولية عليها.  لكن تدخل الجيش والرئيس ترومان بشكل مباشرٍ حوّل وجهته نحو الدعاية، بعد أن تولّى الجنرال ليزلي غروفز صياغة السيناريو. والطريف أن الرئيس الأمريكي نفسه شارك بإضافة مقاطع للحوار. وبالاستناد إلى مئات الرسائل بين صناع الفيلم والعلماء وصانعي السياسات، يكشف ميتشل كيف تمّ قمع النقد النووي في بداياته لصالح سرديات التبرير الوطنية. وكان الهدف هو: «تعلّم التوقف عن القلق وحب القنبلة».

المصدر: موقع أخبار الأردن

© 2025 جميع الحقوق محفوظة - موقع أخبار الأردن

تقييم الخبر
يجب تسجيل الدخول للتقييم
متوسط التقييم: 0.0/5 (0 تقييم)