لا هجرة بعد الطوفان: “تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب”
هذا الذي بين إشارتي تنصيص عنوان كتابٍ وَضَعَه ابن المرزبان المحولي، المتوفى سنة 309 هجرية؛ بدافع نفسي يَسْتبطن غيظًا عارمًا، وأَسَفًا حانقًا حَرَّكه التأثر بمعايشة حال الدولة العباسية في النصف الأول من عمرها، وبواكير أطوار تدهورها؛ حيث استئثار الخُدَّام ونساء القصر اللاتي كُنَّ جواريَ بإدارة مفاصل الدولة، وسيادة سياسيين سَفَلة: الكرامَ الأُمناءَ، في تَوْسيد المناصب والوظائف، والإثراء غير المشروع على حساب مصالح الرعية.
وما ندري: هل كان هذا العنوان الغاضب لِيَشفي صدر المؤلف لو أنه عاصر مِن كَثَبٍ مِثْلنا الإجرام الصهيوني في غزة لوحدها، خاصة وهو يرى تجار حشيش وشاذين ومَوْشومين وممثلين بهوليوود، وعارضات أزياء، وحاخامات بأمريكا، ومومسات، كُلُّهم على غير مِلَّتنا “.. وإنَّ الله لَيُؤيِّد هذا الدِّين بالرجل الفاجر” [البخاري]، وهو يَراهم أَنْصَرَ لغزة من مُخذِّلين مسلمين برتبة دعاة ومثقفين ومُؤثِّرين وسياسيين وحكومات، مع ما يَشْتركون به والغزيين في المِلَّة واللسان والدم والحضارة والثقافة نفسها؟!!
الغرب.. أخلاق نفعية
إن الحضارة الغربية الحديثة والقديمة قامت على النزعة المادية والنفعية، عِوَضًا عن قِيَمية الأخلاق المستمدة من الدِّين المنسوخ، المتواتر توحيدًا، المتباين تشريعًا.
مِنْ أجل ذلك لا يصح أن يُوضَع الموقف التَّوَاطُئي للغرب موقع الاستغراب الساذج منا؛ لأن مفهوم “الواقعية السياسية” عندهم نَحَرَ الفطرة، واِسْتَولد بدلًا منها: “أخلاقًا نفعية تنتمي إلى عالم السياسة، أكثر من انتمائها إلى علم الأخلاق” كما يقول المفكر الكبير علي عزت بيغوفيتش.
وما دام أن هذا الموقف الغربي لا تُحرِّكه أخلاق إيثارية، ولا مؤاخاة عالمية، ولا “حِلْف فضول” أُممي، وما دام أنه “ليس بعد الكفر ذنب”؛ فإن إنفاق الوقت في تَكْييف التواطؤ الغربي على عُهدة اختلاف المصالح الغربية وحسب، مع علنية مَكِيدته، تبذير للجهد عما ينبغي الالتفات إليه، والتنبه عليه، وهو سؤال:
لماذا يُسفِّه مسلمون يؤمنون بأن الجهاد “ذروة سنام الإسلام” المجاهدينَ في غزة؟
لَئِن كانت “الواقعية السياسية” تَختزل الأخلاق الكلية للغرب في أثناء التحارب والتسالم والتحالف والتعاقد والتدافع والتحاور، فإنَّ المُخذلين المُغفَّلين منا سَوَّغوا تخذيلهم وتثبيطهم، وتعطيلهم الجهادَ في غزة، بما يمكن أن نُسميه “الواقعية التَّحَيزية“.
فلا “الذكاء” الذي هو أداة الوعي، ولا “الوعي” الذي هو أحد نتائجه، يُفسران كل الأشياء؛ لأنَّ كثيرًا ممن استخدموا التنابز بالألقاب في حق المجاهدين، وأَلْصقوا بهم أوصافًا بذيئة، مع ابتسامة صفراء ساخرة في أثناء الكلام على “طوفان الأقصى”، ونَقَموا من أطفال غزة ونسائها أنْ يُسطِّروا لنا درسًا عمليًّا في الثبات على العقيدة التي ما عَمِل بها الناقمون! كثيرٌ من هؤلاء أذكياء واعون لا يُشَك في سلامة أفهامهم.
ولا تتحير في أن بعضهم أشبه بــ”مكتبة ديلفري” أو “جوجل فايبر بلا نت” أو “موسوعة هائلة ناطقة”؛ مِن غزارة حفظه المجلدات الطِوَال بأرقام صفحاتها، وبما تحويه كل صفحة منها، بل كل فِقْرة فيها من كلام المؤلِّف، وبألفاظ المؤلِّف نفسها حرفًا ونصًّا وعُنوانًا وتفريعات وتبويبات، والحَوَاشَي التي عليها!!
وإلا فلماذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: “اللهم إنا نعوذ بك من عِلْم لا ينفع”؟! لكي لا نَغتر بكثرة علم العالم؛ إذِ العبرة ليست بكثرة ما حُشِيَ في الرأس من الكتب والشهادات، بل في ما يَنفعه، ويُنتَفع به، وإنْ كان قليلًا.
لماذا يَخذل المُخَذِّل؟
ولعلَّ بعضنا ناقش مُخذِّلًا، فَفُجِعَ به يردد كلامًا يُشعرك أنه يعيش خارج الكوكب! حيث إن كلَّ ما يُؤرِّقه في أحداث غزة هو أشياء ثانوية، ثم نكرانٌ أعجب أنها جهادٌ بين إسلام وكفر!
بل إنك في لحظة ما من نِقاشه ستَخْشى على سلامة دِينك، مع ما اجتمعَ لذلك المُخذِّل من نباهةٍ وتعليمٍ وخُلُق تشهدُ له بظاهر وجوده، حتى لقد يكاد ينتهي بك التفكير في علة حاله إلى خَيْبة اللاسبب؛ إشفاقًا عليه؛ وتَشَككًا -أحيانًا- في أنَّ الحقَّ قد لا يكون واضحًا له.
ولكنَّ الحقيقة أنَّ أمثال هؤلاء المخذلين المَوْكولين إلى خَبِيئة نياتهم، قد حُرِموا التوفيق، والبَصَر بالحق رغم وضوح صورته؛ لِمَا في قلوبهم من صَوَارفَ يَعْلمها الله وحده عُوقبوا بها عن قَبُول الحق، وقد قال ابن القيم الجوزية: “مَن عُرِضَ عليه حقٌ فَرَدَّهُ، فلم يقبله؛ عُوقِبَ بفساد قلبه وعقله ورأيه”.
ولم نجد أوضحَ سببٍ لذلك الداء من قول شيخ الإسلام ابن تيمية في “درء تعارض العقل والنقل (9/34)”: “وقد يكون الرجل من أذكياء الناس، وأَحَدِّهم نَظَرًا، ويُعْمِيه الله عز وجل عن أظهر الأشياء، وقد يكون من أبلد الناس، وأضعفهم نظرًا، ويَهْديه لِمَا اِخْتُلِفَ فيه من الحق بإذنه ..”.
على أنَّ السبب الأوحد وراء هذا التحول والتغير والتبدل لِمَن باتوا يُعرَفون اليوم بــ”المُخَذِّلين”، مع ثبات النص: الإلهي المحفوظ، والنبوي المسنود؛ لفظًا ومعنًى، لا يَخْرج عن إضمار التحيز المُسْبَق -لسبب معلوم مشهور- فهم يتحيزون للرأي المطلوبِ صَرْف الناس إليه؛ بالبحث عَمَّا يُقوِّي تَحَيزهم، ولو كان في ذلك إهمال كامل لصراحة الآيات القرآنية، أو تَطْويعها وتَكْييفها ولَيِّهَا عن ظاهر مُراد الله فيها، إلى مراد ذاك المُتحَيِّز!
فلَمَّا أصبح الحق في زماننا مَحْمولًا على الوجه الذي يَسْند الرأي المُتَحيز، ويُوصِل إليه؛ عُوقِب صاحبُه بإضلال الله له مع ما في حَوْزته من العلم العاصم له من الضلال، وهذا معنى قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ “”وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ”” وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) [الجاثية: 23].
وقد قال ابن تيمية في [ مجموع الفتاوى: ٦٢٩/٧ ]: “المستكبر عن الحق يُبتلى بالانقياد للباطل”.
السمات الخطابية لعبيد التحيزات
ولعلَّ أوضح العلاماتِ الكاشفةِ عَبِيدَ التحيزات المُسبَقة أنهم:
* يَقْلِبون مفهوم “السياسة الشرعية” على وجهِ: “الشرعية السياسية”؛ فيغدو النص الإلهي والنبوي الذي نَظَّم حياة العَالَم بعدالة كاملة مُسخَّرًا لتحليل المُحَرَّم، وتخليص الجهاد والشهادة من مضامينهما الشريفة، وتشريع الظلم، كل ذلك بنصوص القرآن والسنة؛ بِقلب الآيات والأحاديث النبوية على غير وجهها المعلوم الراجح إلى مُرادهم، لا إلى مراد الله، وكَتْمِ معانيها الصحيحة، وجعل مُحْكَمات الآيات في مقام المُشْتبهات.
* يَسْتعيرون كلام السياسيين في موضع لا ينبغي الخلط فيه بين ظن السياسي غير المعصوم، والنص الشرعي القطعي؛ فتجد كلامهم إلى الرأي السياسي أقربَ منه إلى الحكم الشرعي، وما هذا الخلط المتعمد إلا لِقَطع العامة عن طريق الحق.
* يُلْغُون عقيدة التوكل على الله الذي انتدب عباده إلى الجهاد بما في أيديهم، وبما استطاعوا له من الوُسع والطاقة واليسار والجُهد، وقَدِروا عليه من أسباب القوة المادية: “وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ..” [الأنفال: 60] ، واِسْتبدلوا بكل هذا: عقيدة وجوب تكافؤ موازين القوى! فصار المجاهدون بهذا مُخرِّبين ذوي أجندة خارجية، جالبينَ الدمار إلى غزة!
* يُحمِّلون المجاهدين المسؤولية عن التهجير والتدمير والتقتيل والتجويع، ويَتْركون من ألسنتهم الحِدَاد المُهجِّر والمُدمِّر والمُقَتِّل والمُجوِّع، فوا عَجَبًا!
امتحان الأمة
لم تكن الأقنعة أَكْشَفَ منها كاليوم! إذْ كانت غزة الفاضحة الفَضَّاحة، وقد أَبَى الله إلا تكون غزة امتحانَه للأمة.
أما إخواننا في غزة فلهم رخصة المضطر في الاستعانة بمَن يَرونه يُعِين جهادهم؛ لأنهم في حالة حرب، وهذه الرخصة ليست لنا، فلا تَقِيسوا ما لهم على ما ليس لكم فتقولوا: كيف يستعينون بفلان وفلان! إنها معركة وعي، وواجب الوقت!
وأما تأخير وقت التفريج عنهم فليس امتحانًا لإيمانهم، بل لإيماننا نحن؛ فقد بَلَغوا بإيمانهم مَبْلغًا بَوَّأهم اصطفاء الله علينا ليجددوا إيمان الأمة كلها؛ لأن حصول النصر في قلوبهم راسخ، وما تأخير النصر إلا لأنَّ بينهم الشهيد الذي يوشك أن يُزف قريبًا، ولأنهم مُسجَّلون في لائحة الشهداء: “وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ..” [آل عمران: 140]، ولأن منهم الرجل الذي لن يَبلغ الفردوس إلا بتشديد البلاء عليه.
وفي الحديث الشريف الصحيح: “مَن أعان على مسلم ولو بشطر كلمة؛ فقد بَرِأت منه الذمة”. قال الأشياخ الأفهام:
“”قال شُرَّاح الحديث: ولو أنه أعان عليه بــ”مَهْ”، أو أنه أشار بما يُفهَم منه الإعانة؛ فقد دخل في وَعِيد هذا الحديث””.
وأضافوا: “بل لو أنَّ امرأةً مومسة من المسلمين تَمَالأ عليها اليهود والنصارى، فإنَّ كل مَن يُعِين عليها ولو بشطر كلمة فقد بَرِأت منه الذمة!”.
هذا وعيد مخيف؛ لِتَعلقه بـ”الولاء والبراء”!، حيث لا هِجْرة بعد “الطوفان”.
The post لا هجرة بعد الطوفان: “تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب” appeared first on السبيل.
المصدر: موقع أخبار الأردن
© 2025 جميع الحقوق محفوظة - موقع أخبار الأردن