كيف يعيد الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية تشكيل قواعد العدالة المناخية؟
في تحولٍ مفصلي لمسار العدالة المناخية، أصدرت محكمة العدل الدولية في23 تموز 2025 رأيًا استشاريًا طال انتظاره، يفسر الالتزامات القانونية للدول تجاه تغير المناخ. ومع أن الرأي غير ملزم قانونيًا، إلا أنه يحمل ثقلاً سياسيًا وأخلاقيًا عميقًا، ويمنح أدوات جديدة للمجتمع المدني والدول النامية في نضالها من أجل مناخ أكثر عدالة. ويأتي هذا التطور بينما تتجه الأنظار نحو مؤتمر المناخ المرتقب في البرازيل (كوب30)، حيث سيتحدد الكثير من ملامح المرحلة المقبلة في الحوكمة المناخية الدولية.
ما يميز هذا القرار ليس فقط مضمونه، بل سياقه: جاء نتيجة مبادرة أطلقتها دولة جزرية صغيرة، فانواتو، مدعومة من طلاب قانون من جزر المحيط الهادئ، سرعان ما تحولت إلى حملة أممية وجدت صداها في الجمعية العامة للأمم المتحدة. 91 مذكرة خطية و97 مداخلة شفوية شاركت في المداولات، ما يعكس الزخم العالمي حول السؤال المحوري: من يتحمل مسؤولية الكارثة المناخية؟
جوهر الرأي أن الدول مُلزمة قانونًا بحماية النظام المناخي، سواء عبر خفض الانبعاثات أو منع الأذى الناتج عن أنشطة داخل حدودها، بما في ذلك منح التراخيص للوقود الأحفوري، أو دعم شركاته، أو حتى التقاعس عن التدخل حين تتسبب الشركات الخاصة بانبعاثات ملوثة. هذا التوسع في المسؤولية، من الفعل إلى الامتناع، ومن العام إلى الخاص، يقلب المعادلة القانونية التقليدية.
من خلال هذا التفسير، لم تعد الالتزامات المناخية مجرد تعهدات سياسية ضمن اتفاق باريس، بل باتت جزءًا من منظومة قانونية دولية مترابطة. المحكمة لم تكتفِ بإعادة تأكيد الالتزامات القائمة، بل فسّرتها ضمن مبادئ مثل الإنصاف بين الأجيال، والمسؤوليات المشتركة ولكن المتمايزة، وحق الإنسان في بيئة سليمة. وبالتالي، يصبح أي تقاعس عن حماية المناخ قابلاً للطعن القانوني.
من الناحية الجيوسياسية، شكلت المرافعات منصة كاشفة للتجاذبات الدولية. بعض القوى الكبرى، لا سيما الولايات المتحدة ودول من أوبك، سعت لحصر الالتزامات ضمن إطار اتفاق باريس، باعتباره أداة مرنة. لكن المحكمة رفضت هذا القيد، وأكدت أن القانون الدولي البيئي يمتد إلى ما هو أوسع من تلك الاتفاقية، شاملاً معاهدات البحار، الأوزون، التنوع البيولوجي، وحتى القانون العرفي الدولي.
هذا الرأي يضع المجتمع الدولي أمام لحظة حقيقة: لم يعد بالإمكان التذرع بالغموض القانوني أو بالتفاوت في المسؤوليات لتبرير التقاعس. الفجوة بين من يسبب الأذى المناخي ومن يتحمل كلفته لم تعد مجرّد خلل أخلاقي، بل أصبحت موضع مساءلة قانونية محتملة. وهنا تتجلى أهمية ما قدمته محكمة العدل الدولية: تأطير الأضرار المناخية ضمن منطق العدالة لا العفو.
من منظور تكتيكات المناصرة، يوفر هذا القرار رافعة جديدة للحركات البيئية. إذ يمكن للمجتمع المدني أن يعيد توجيه جهوده نحو مسارات التقاضي الاستراتيجي، ليس فقط داخل الدول، بل أمام المحاكم الإقليمية والدولية. كما يتيح توسيع الخطاب المناخي ليشمل قضايا العدالة الاقتصادية، والحق في التنمية، وحقوق الشعوب الأصلية، لا باعتبارها قضايا ثانوية، بل كجزء لا يتجزأ من الحل.
ولا يمكن تجاهل ما يفتحه القرار من أفق أمام آليات “الخسائر والأضرار”، وهي من أكثر الملفات الشائكة في مفاوضات المناخ. فبينما كانت الدول الغنية تتذرع بأن التعويضات غير منصوص عليها صراحة في اتفاق باريس، يأتي الرأي ليؤكد أن التعويض عن الأذى المناخي لا يحتاج إلى نص صريح في اتفاق واحد، طالما أن هناك منظومة قانونية أوسع تفرض هذه الالتزامات. بهذا، يمكن اعتبار الرأي نقطة ارتكاز لتطوير صندوق الخسائر والأضرار، وربما توسيع نطاقه ليشمل التعويض عن فقدان التنوع البيولوجي، وتهجير السكان، والدمار الثقافي.
الرأي أيضًا يسلّط الضوء على التناقض بين الديناميات السياسية والحقائق المناخية. ففي الوقت الذي تعاني فيه دول الجنوب العالمي من تبعات التغير المناخي، لا تزال معظم آليات التمويل، والتكنولوجيا، وبناء القدرات، رهينة قرارات مراكز النفوذ. ومن هنا، فإن محورية هذا القرار تكمن في كونه يُعيد تعريف السلطة في ملف المناخ، ويمنح الدول المتضررة موقعًا تفاوضيًا أقوى، مدعومًا بمرجعية قانونية واضحة.
في السياق العربي، يفتح القرار نقاشًا جديدًا حول موقع الدول العربية في النظام المناخي العالمي. ففي غياب موقف عربي موحد أثناء المداولات، يمكن القول إن الفرصة لا تزال متاحة أمام هذه الدول لتعزيز حضورها في المفاوضات القادمة، من خلال الانخراط النشط في نقاشات ما بعد الرأي، والبناء عليه كمرجعية تفاوضية في مؤتمر الأطراف القادم كوب30. كما أن هناك حاجة لتطوير خطط وطنية تترجم هذا الرأي إلى التزامات قابلة للتطبيق، لا سيما في ما يخص حماية الفئات الضعيفة، وتقييم الأثر المناخي للمشاريع الاستثمارية، وتنظيم العلاقة مع شركات الطاقة.
وفي الوقت ذاته، يبرز تحدٍّ مركزي يتمثل في ضعف التنسيق وتشتت المواقف بين الدول العربية، ما قد يؤدي إلى تفويت فرصة استثنائية تُتيحها المرجعية القانونية لرأي محكمة العدل الدولية. هذا الواقع يزداد تعقيدًا بفعل الهيمنة السياسية والاقتصادية الأمريكية المستمرة في المنطقة، التي من المرجح أن تؤثر على صياغة السياسات المناخية وتوازنات القوى الإقليمية، مما قد يقيد قدرة الدول العربية على التحرك بفعالية واستقلالية في المفاوضات الدولية.
لذلك، يصبح العمل المشترك ضمن المجموعات التفاوضية مثل مجموعة جامعة الدول العربية ومجموعة الـ77 + الصين أمرًا حيويًا لتحقيق موقف عربي قوي مع العالم في الجنوب. فمن خلال تنسيق الجهود داخل هذه المجموعات، يمكن للدول العربية أن تعزز من حضورها التفاوضي، وتستثمر المرجعية القانونية التي أتاحها رأي محكمة العدل الدولية في صياغة مطالبها واستراتيجياتها. كما يمكن لهذا العمل الجماعي أن يسهم في بناء تحالفات أوسع مع دول الجنوب، لتعزيز العدالة المناخية على المستوى الدولي.
إن الفاعلية في هذه المجموعات التفاوضية لا تقتصر على تمثيل المواقف السياسية فقط، بل تشمل تطوير القدرات القانونية والفنية للدول الأعضاء، وتفعيل المشاركة المجتمعية والمناصرة الوطنية في بلدانهم. هذا النهج المتكامل ضروري لضمان أن يتحول الرأي الاستشاري إلى آليات تنفيذية حقيقية تترجم الالتزامات القانونية إلى واقع ملموس، وتحمي حقوق الشعوب المتضررة. وغياب مثل هذا التنسيق الموحد قد يُفقد المنطقة فرصة ثمينة في مواجهة التحديات المناخية، ويعمّق الفجوة بين الالتزامات الدولية والواقع المحلي.
وفي هذا الإطار، يبرز دور الحركات والنشطاء البيئيين في المنطقة العربية كمحرك فاعل لترجمة مضامين الرأي إلى مطالب وطنية وشعبية. فالقرار يمنح الناشطين شرعية قانونية يمكن البناء عليها لتوسيع فضاءات العمل المدني في قضايا المناخ، وتفعيل أدوات الرقابة والمساءلة البيئية. كما يمكن أن يشكل أساسًا لحملات مناصرة تطالب بإدماج العدالة المناخية في السياسات العامة، وتوسيع دائرة المشاركة المجتمعية في صناعة القرار البيئي.
إن التقاط هذا الزخم على المستوى الوطني يتطلب من النشطاء العمل على تطوير أدوات تحليل السياسات البيئية، وبناء تحالفات مع النقابات، والبلديات، والمؤسسات الأكاديمية، من أجل مأسسة المطالب المناخية وربطها بقضايا التنمية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية. كما أن تعزيز التعاون الإقليمي بين الحركات البيئية في العالم العربي يمكن أن يُفضي إلى جبهة ضغط مشتركة تسهم في دفع الدول إلى تبنّي مواقف أكثر طموحًا وشمولية في المفاوضات الدولية القادمة.
لا يقتصر الرأي على الإطار الدولي فحسب، بل يحمل أيضًا انعكاسات مباشرة على السياسات الوطنية. إذ يمكن للدول التي تسعى إلى تعزيز التزاماتها البيئية أن تستند إليه في مراجعة قوانينها البيئية، وتعزيز نظم الرقابة، وتوسيع صلاحيات السلطات القضائية المحلية في المساءلة المناخية. وهو ما يمنح القرار أبعادًا مزدوجة: دولية ومحلية، قانونية وسياسية، نظرية وعملية.
كل هذا يجعل من الرأي الاستشاري وثيقة تأسيسية لعصر جديد في النضال المناخي. عصر يتجاوز الطابع التطوعي للحوكمة المناخية، ويعيد مركزية القانون والمساءلة إلى الواجهة. عصر تُكتب فيه قواعد اللعبة من جديد، وتُمنح فيه المجتمعات الهشة أدوات للدفاع عن حقها في البقاء.
في الطريق إلى البرازيل، لا بد من تحويل هذا الزخم القانوني إلى استراتيجية سياسية واضحة. فالرأي وحده لا يكفي، إن لم يتم دعمه بخطط عمل ومواقف تفاوضية ومسارات ضغط جماعي. ويبقى الرهان على أن يكون كوب30 ليس فقط مؤتمرًا للأهداف، بل مؤتمرًا للمحاسبة – حيث تُطرح الأسئلة الصعبة: من يدفع الثمن؟ من يعوض؟ ومن يقرر؟
وفيما تتحضر الوفود للمؤتمر، لا بد أن تحتل العدالة المناخية مكانها في الصدارة. ليس فقط كقضية إنسانية، بل كأولوية قانونية، وكحق من حقوق الشعوب. ومن هنا، فإن الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية لا يجب أن يُقرأ كوثيقة قانونية فحسب، بل كدعوة ملحة لإعادة توزيع السلطة في زمن المناخ.
The post كيف يعيد الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية تشكيل قواعد العدالة المناخية؟ appeared first on السبيل.
المصدر: موقع أخبار الأردن
© 2025 جميع الحقوق محفوظة - موقع أخبار الأردن